قد لا تحب نساءه لأول وهلة، لكنك بعد فترة قصيرة لا تستطيع أن تمنع نفسك من الافتتان بهن والانغماس في أجوائهن الغامضة المليئة بالحكايات والأسرار. هكذا هو الحال مع روسيتي (1828-1882) وفاتناته اللواتي يبدون غريبات الشكل وكأنهن جئن من عالم آخر غير العالم الذي نعرفه ونعيش بين ثناياه. هذا الفنان البريطاني الذي أسس سنة 1848 مع مجموعة من الفنانين جماعة (ماقبل الروفائيلية) كرد فعل ضد الفن السائد في بريطانيا آنذاك، والعودة الى طريقة روفائيل وتقنيته في الرسم مع شيء من تأثيرات الفن الفلامنكي (جنوب هولندا وشمال بلجيكا) وقد اهتم هو وجماعته برسم خلفيات المشهد بشكل لافت بلمسات خاصة تجعل الواقع أكثر رمزية وأسطورية، وتمثيل ذلك غالباً في الهواء الطلق. أشكاله فيها خيال كبير وشخصياته مليئة بالحياة، بل وتتجاوز ذلك أحياناً لتقترب من الآلهة من شدّة السحر الذي تعكسه عند رؤيتها.
كان روسيتي شاعراً كبيراً ورساماً مجدداً في وقته، ومثلما ارتبط بعلاقات جمالية مع موديلاته والنساء اللواتي تعرف عليهن مثل اليزابيث سيدل وفاني كرونفورث وجين موريس فهو أيضاً قد تشابكت وتداخلت أجواؤه الشعرية مع رسومه، وكتب السوناتات لتصاحب لوحاته وتزيد معانيها وقوتها. تخلى روسيتي عن تركيبات وتكوينات القرون الوسطى واتجه نحو رسم أعمال تنتصر لروح الموديلات التي يرسمها عن قرب وكأنها موديلات نصفية لربات الجمال، وقد شبَّع لوحاته بألوان كثيفة قام بمزجها بنوع من الصمغ ليمنحها اضاءة من نوع خاص، مع الذهاب بعيداً مع التفاصيل والمفرداتها الصغيرة التي تتوزع بين نساء مليئات بشبق وأيروتيكية واضحة. ومثلما أظهر في أعماله الكثير من المعاني والمفاهيم والأفكار وجسدها بشكل مرئي ووضعها بين أيدي الناس، فهو أيضاً أثَّر تأثيراً كبيراً على الرمزيين فيما بعد. كان يبحث عن كل شيء يزيد من تأثير أعماله، وبحكم عمله كشريك في احدى الشركات التي تهتم بالفنون الزخرفية والتصامين فقد ساهم في وضع الكثير من تصاميم وأعمال الرسم على الزجاج والديكورات الداخلية، وهذا يذكرنا بروجر فراي الذي قال عنه (روسيتي أكثر مبدع منذ بليك اجتهد وأوجد أفكاراً جديدة في الفن).
التقى روسيتي بأليزابيث سيدال سنة 1850 وأصبحت ملهمته وتزوجها بعد عشر سنوات من ذلك، حيث أصبحت نموذجه المفضل في الرسم على مدى سنوات طويلة أنتج خلالها الكثير من روائعه. وحين توفيت اليزابيث أصابه الاكتئاب بشكل كبير، وقام بدفن بعض قصائده غير المنشورة معها (أخرجها بعد فترة من الزمن لتنشر ثم تعاد الى مكانها)، وقد جسد فقدان زوجته بلوحات عديدة، لعل أهمها، لوحته العظيمة التي أسماها (بياتريكس المباركة) الموجودة في التيت غاليري بلندن، حيث استوحى أجواءها من قصيدة لدانتي مزجها مع ذكرى زوجته التي تظهر في اللوحة وهي غافية وترفع رأسها الى الأعلى، مسترخية ومستسلمة بثوبها الأخضر وشعرها الأحمر الداكن، يشع الضوء خلفها وهي تفتح كفيها في حجرها بطمأنينة ليقترب منها طائر أحمر اللون على رأسه هالة مقدسة ويحمل في منقاره وردة بيضاء، ورأسها يميل الى الاعلى ساهماً، كأنها ذاهبة الى الجنة. هل هناك رمزية في الرسم أكثر من هذا؟! هنا نرى ونتحسس الرمزية في أعظم صورها، والعاطفة هي التي تتكلم وتشير الى عبقرية فريدة في الرسم حيث نرى حضور حبيبة الرسام في هذا النموذج كما في كل النماذج التي رسمها. هن لسن نساء حقيقيات نراهن في الشارع، بل صورة في ذهنه لحلم يحاول أن يمسكه بين يديه ويحتويه بفرشاته، أنها صورة زوجته البعيدة ولذكراها التي لم تفارقه حتى آخر يوم في حياته.
الموديل حين يصبح أسطورة
[post-views]
نشر في: 11 مارس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...