حين عاد من ذلك البلد البعيد في زيارة ، بدا وكأن اشياء كثيرة تغيرت فيه ..لم يكن التغير سلبيا اذا نظرنا اليه بطريقة متحضرة ، اذ لم يعد ذلك الشاب البسيط الذي يستخدم المجاملة وسيلة لتسيير أموره ..لقد بات يستخدم الصراحة سلاحا يشهره في وجه الجميع دون استثناء إيمانا منه بأن الإفراط في المجاملة يتحول تدريجيا الى نفاق غير مرئي وسرعان مايتطور الامر وتتحول المجاملة الى شبح من الأكاذيب ..
لم يفهمه المقربون منه في بادئ الامر اذ لم يتغير حالهم عن السابق بل زادت مجاملتهم لبعضهم الى حد النفاق وصار يمكنه ان يرى من تركهم أعداء قد اصبحوا أصدقاء لمجرد وجود مصلحة تجمع بينهم ، او يسمع مديحا لشخص لايستحقه من شخص آخر لايحبه لمجرد تفادي ماقد يصدر عنه من أذى !!
رغم ذلك ، حاول الا يستخدم الصراحة كسكين حاد يجرح به مشاعر أحبته بل كفنّ يصعب على الجميع استيعابه مستندا الى حقيقة ان الصراحة تحقق الراحة لقائلها وسامعها اذ ليس من المعقول ان نعتبر المجامل أعز الاصدقاء وأوفاهم والصريح الذي ينتقد ويسعى لتصحيح أخطائنا هوعدونا ..وليس من المعقول ايضا ان يكون عدونا غبيا ليخبرنا بمواطن ضعفنا وينبهنا لأخطائنا ...
لم يكن الامر هيناً وكانت نتيجته الاصطدام بمن لايحبذ الصراحة او المواجهة ويفضل الارتكاز على كلام منسوج من الهواء لايمس القلب ولا الضمير ويسهل تجاهله ليعود هواء من جديد ...لكنه دأب على استخدام سلاحه دون كلل وكان يقول لمن حوله ان المرء متى ماتخلص من المجاملة فلابد ان يحذو الآخرون حذوه وينصحهم بعدم الإصرار على استخدامها لأن الإصرار على الخطأ يعتبر خطيئة احيانا ..
في النهاية ، وحين اقترب موعد عودته الى ذلك البلد البعيد ، لم يلحظ ما احدثه من تغيير على من حوله لأن التغيير لم يحدث اصلا ولأنهم لم يفهموا فلسفته ليؤمنوا بها ويطبقوا بنودها لذا عاد ليعقد مواجهة بينه وبين نفسه ليحاول الوصول الى نتيجة مرضية ترضيه وترضي من حوله ، وقبل كل ذلك ترضي ذلك الضمير الذي بداخله ..والغريب انه لم يجد حلاً مُرضياً الا في استخدام الصراحة ..
اغلب رجال السياسة الحاليين لدينا وفدوا من الخارج وتعلموا عاداته ، لذا كان يفترض ان يمارسوا سلوك الصراحة كصاحبنا فيضعوا اصابعهم على اخطاء بعضهم البعض ولايجاملونهم على حساب المبادئ والنوايا الحسنة وهو السلوك الذي توقع العراقيون ان يسلكه العبادي الذي تشرب بسلوكيات الغرب ..توقعوا ان يؤشر الأخطاء ويكاشفهم بها وألّا يجامل أو يحابي مادام يدّعي الوطنية ويدعو الى اصلاح مواطن الخلل في البلد ، لكن الأيام توالت ليكتشفوا ان الصراحة والمواجهة هما آخر اسلحته وان المجاملة والمحاباة هما السلوك الذي يرضيه ويرضي من حوله ولكنه لن يرضي شعبه او ضميره ان كان مازال حيا وهو يعيش وسط مستنقع من فساد المسؤولين من رفاقه وبُركة من عرق ودماء العراقيين الذين مازالوا ينتظرون ما ستسفرعنه المواجهة ..أو ..المجاملة !!
مواجهة
[post-views]
نشر في: 11 مارس, 2016: 09:01 م