القسم الثالث
يتحدّث ( وودي آلن ) عن آلية محدّدة يمكن أن يوظّفها المرء في التعامل مع حالة اللامعنى السائدة في حياتنا ، ويمضي في توضيح مفهومه هذا بقوله : ( استنتاجي الحاسم هو أن مايُعوّل عليه في هذه الحياة هو التشتيت Distraction : فأنت حينما تشاهد مباراة بيسبول أو فلماً يرقص فيه " فريد أستير " فإنك تعمل على تشتيت نفسك ، وصناعة الأفلام بذاتها ماهي إلّا مثال على تشتيت رائع ، ولولا هذا التشتيت لبقي الجميع في منازلهم ومضوا في التساؤل القاتل الذي لاينتهي : ياإلهي ، مامعنى هذه الحياة ؟ سوف أتقدّم في العمر ، وسوف أموت ، وسوف يموت من نحبّهم أيضاً ، وربّما سنُصابُ بالصلع !! ) .
يندهش المرء حقاً للبساطة المفرطة والمدهشة التي ينطوي عليها حديث ( آلن ) ونظرائه من ذوي الإمكانيات القادرة على تطويع أكثر المفاهيم الفلسفية تعقيداً في هيئة عبارات سهلة الوقع وبسيطة التركيب ومغلّفة بإطار من الفكاهة ذات المحمول المعرفي الذي لايخفى على النظر ، ثم يمضي ( آلن ) في القول : ( لذا فإن كلّ مايجب فعله في الحياة هو أن تشتّت نفسك وأن تعيش لحظاتٍ بعيدة عن مواجهة الواقع . كثير من المفكّرين العظماء مثل فرويد ونيتشه ويوجين أونيل اتفقوا على أن أغلب الواقع لايمكن احتماله ، وينبغي على المرء أن يفكّر في كيفية الهروب من هذا الواقع ؛ وهذا مايحدث في واقع الحال عندما أذهب للسينما وأشاهد فلماً يرقص فيه " فريد أستير " لمدة ساعة ونصف الساعة فأتوقّف حينها عن التفكير في الموت أو في جسدي الواهن أو في التفكير بأنني سأغدو عجوزاً في يوم قادم ........... ) .
أثارت كلمات ( وودي آلن ) في روحي ذكريات عزيزة تختص بشغفي المتعاظم لاستكشاف دور الرواية في عالمنا المعاصر منذ أن بدأت بكتابة الرواية ، ومن الأمور اللافتة للنظر في هذا الميدان هو ماكتبته في التقديم لكتابي المنشور حديثاً عن دار المدى والمعنون ( تطوّر الرواية الحديثة ) ؛ حيث نقرأ في إحدى الفقرات العبارات التالية : ( غدت الرواية ، على الصّعيد الفرديّ ، بمثابة " الفضاء الميتافيزيقيّ " الذي يلجأ إليه الأفراد للحصول على فسحةٍ من " فكّ الارتباط " مع الواقع الصلب واشتراطاته القاسية ، والإبحار في عوالم متخيّلة لذيذة تشبه حلم يقظةٍ ممتدّاً ، ويستوي في ذلك مبدعو الأعمال الروائيّة وقارئوها . يمكن عدّ الرّواية في هذا المجال ، و في عصر العقلانيّة العلميّة الصّارمة ، البديل الأكثر جدارة وقدرة عن الأسطورة التي ساهمت - مع فنون السّحر البدائيّة - في تعزيز الصلابة الداخليّة للفرد البدائيّ وترصين بنيانه الذهني و السايكولوجي وتمكينه من مواصلة العيش بطريقة مشرّفة بعيداً عن التخاذل والانكفاء أمام المصاعب والأهوال التي كانت شائعة مذْ وجِد الإنسان على الأرض ، ومن الطبيعي للغاية القول أنّ الرواية خليقة على النهوض بكلّ المهام التي نهضت بها الأسطورة من قبلُ . ) ، وهنا يمكن للقارئ وعلى نحو مباشر وغاية في الوضوح عمل مقابلة متوازية ومتكافئة بين مفهوم ( التشتيت ) الذي حكى عنه ( وودي آلن ) وبين مفهوم ( فك الارتباط مع الواقع الصلب ) الذي تنهض به الرواية الحديثة .
يتبع