قصيدة "هؤلاء" لجاك بريفير، شاعر فرنسا المعروف (ولد في 4 شباط/فبراير 1900 في نويي سور سين، وتوفي في 11 نيسان/أبريل 1977) قصيدة لم تبرح ذاكرتي منذ قرأتها أول مرة، ثم نسختها في دفتر الكشكول، قبل زمن الكومبيوتر بنحو نصف قرن.. هل كنت شاباً وقتها يضع له الشعر فخّ الوقوع في مكر الكلام المختلف، أم تراني استحوذت، عنوة، على أعمق أفكار الشاعر الغريب في الجغرافيا- القريب من نبض العراقيين، في لحظة صفاء توشّلت من طفولة لم تزل تأخذ بياقة قصيدتي، فنسخت هذه القصيدة الفرنسية ونسيت نسخ اسم مترجمها لفرط فرحي بها في ذلك الوقت.. وهذا الوقت.. هل نسختها من كتاب مترجم أم صحيفة يومية أم مجلة ثقافية؟ لا أتذكر حقاَ.. هل تأثرت بها أو بسواها من قصائد الشاعر؟ نعم، بالتأكيد، مثلما تأثرت بقصائد العالم، كلها.
هنا الجزء الأول من القصيدة:
"هؤلاء الذين هم في صورة المتقّين/ هؤلاء الذين هم في صورة المحافظين/ هؤلاء الذين يفتتحون/ هؤلاء الذين يعتقدون/ هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يعتقدون/ هؤلاء الذين ينعقون/ هؤلاء ذوو الأقلام/ هؤلاء ذوو البطون/ هؤلاء الذين يعرفون كيف يفتكون بالدجاجة المطبوخة/ هؤلاء ذوو الرؤوس المصلعّة من الداخل/ هؤلاء الذين يسلمون المدافع للأطفال/ هؤلاء الذين يسلمون الأطفال للمدافع/ هؤلاء الذين يطفون ولا يغوصون/ هؤلاء الذين تمنعهم أجنحتهم السمينة من الطيران/ هؤلاء الذين يضعون قناع الذئب على وجوههم حين يفترسون الخراف/ هؤلاء الذين يرضعون أثداء فرنسا/ هؤلاء الذين يعدون ويطيرون وينتقمون/ كل هؤلاء وكثيرٌغيرهم كانوا يدخلون محمومين قصر "الإليزيه"/ يئن الحصى ويرفض وقع أقدامهم/ كل هؤلاء كانوا يتزاحمون ويسرعون/ إذا كان هناك عشاء كبير من الرؤوس فكل منهم يختار لنفسه الرأس الذي يشتهيه".
وعلى الجبهة المقابلة يكتب الشاعر "هؤلاء" التحت-النقيض لـ"هؤلاء" الفوق، ولم يفصل الشاعر المقطعين سوى بنجمة فاصلة، وهو هنا لا يصور ما يراه، ولا "يؤلف" دراما شعرية موازية لدراما اجتماعية، إنما يكشف مرارة الصراع القائم، طبقياً وأخلاقياً، لتأتي قصيدته تفوّقاً درامياً على ما يحدث، من دون التعالي عليه أو إنكاره، من خلال انحياز اللغة وأمانتها على الجانبين، بمهنية ليست بريئة، ولكنها عادلة، ومن غير الشاعر الحقيقي يحمل قلباً قلقاً، لكنه عادل، وهو يرى إلى العالم بمزيد من الحزن؟.
هنا الجزء الثاني من القصيدة:
هؤلاء الذين يعملون في المنجم/ هؤلاء الذين يشربون الزجاجات فارغة بينما يشربها الآخرون ملأى/ هؤلاء الذين يحلبون الأبقار ولا يشربون اللبن/ هؤلاء الذين يبصقون رئاتهم في المترو/ هؤلاء الذين لا يعرفون ما يجب أن يقال/ هؤلاء الذين لديهم من القول أكثر مما يستطيعون أن يقولوا/ هؤلاء الذين علاهم جهد العمل/ هؤلاء الذين ليس لهم من عمل/ هؤلاء الذين يبحثون عن عمل/ هؤلاء الذين لا يبحثون عن عمل/ هؤلاء الذين يتناولون خبزهم أسبوعياً/ هؤلاء الذين يشتهون أن يأكلوا ليعيشوا/ هؤلاء الذين لم يرو–قط- البحر/ هؤلاء الذين يشمون نسيج الكتان لأنهم يصنعونه/ هؤلاء الموكولون بالأفق الأزرق/ هؤلاء الذين يهرمون قبل سواهم/ هؤلاء الذين لم يخفضوا رؤوسهم حتى لجمع إبرة/ هؤلاء الذين ينفجرون سأماً يوم الأحد بعد الظهر/ لأنهم يرون مقدم يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت.. والأحد بعد الظهر".
"هؤلاء".. جاك بريفير
[post-views]
نشر في: 14 مارس, 2016: 09:01 م