رفعة عبدالرزاق محمدفي سير اعلام تاريخنا الحديث الكثير من الصفحات المطوية الجديرة بالبحث والاستجلاء، ومنها صفحات رئيسة في تلك السير، وهي ليست من شوارد التاريخ أو مهملاته، بل مر بها الباحثون على عجل لأسباب مختلفة، وفي مقدمتها غياب وثائقها ورحيل شخوصها،
كما ان بعض هذه الصفحات ، أنطوت بسبب حرص أصحابها على بقائها مطوية، وقد كتبنا في مقالات مختلفة الشيء الكثير عن ذلك، ومن ذلك انقطاع الشاعر الكبير الدكتور محمد مهدي البصير عن نظم الشعر الذي عرف به ابان الثورة العراقية الكبرى عام 1920 وما بعدها بقليل. لقد كان البصير شاعر ثورة العشرين بحق وبه ذاع امره بين الناس، وكان له الدور الكبير في تحريض الشعب ضد الاحتلال البريطاني ونيل الاستقلال ، وتحقق ما كان يريده من قدومه الى بغداد باندلاع الثورة. ختم اللسان جهاده وغزت عن الكتب الكتائب فلتصمتن يراعتي ولتصغين الى القواضب لي امس كان وقد مضى واليوم للبطل المحارب والامر معروف لمتتبعي سيرة البصير بما لاقاه بسبب مشاركته الفاعلة في التحريض على الثورة.. واستمر الامر بعد انتهاء الثورة وقيام الحكومة العراقية المؤقتة ، فنقل جهاده الشعري، الى جريدة (الاستقلال) البغدادية لصاحبها عبد الغفور البدري، اذ كانت لسان الحركة الوطنية المعارضة، وما ان عطلتها السلطة في 9 شباط عام 1921 ، حتى القت القبض على محرريها قاسم العلوي ومحمد مهدي البصير، فضلاً عن صاحبها البدري، وساقتهم الى المحكمة، فكان نصيب البصير السجن لمدة تسعة اشهر بتهمة الاخلال بالامن والتحريض ضد السلطة، وبقي البصير في السجن حتى قدوم فيصل الاول ملكا على العراق فأفرج عنه بكفالة نقدية على ان يبقى تحت الرقابة. وعند تأسيس (الحزب الوطني) عام 1922 بزعامة جعفر ابو التمن، وهو حزب المعارضة الوطنية، كان الشيخ محمد مهدي البصير من المساهمين في تأسيسه وأنتخب عضوا في لجنته التأسيسية، واستمر في نهجه السياسي المعارض ، حتى اذا حلت الذكرى الاولى لتتويج الملك فيصل في 23 اب عام 1922 ، قام الحزب الوطني مع (حزب النهضة) بتظاهرة سلمية، وانتدب البصير ليلقي خطبة في البلاط الملكي يعرض فيها مطالب الحركة الوطنية، وقد فصلت الامر في مقال سابق لي عنوانه (إستجلاء موقف فهمي المدرس في ذكرى التتويج) والمهم ان البصير القى كلمته التي تجد نصها في كتابه (تاريخ القضية العراقية) واثناء ذلك حضر المندوب السامي السر برسي كوكس الى البلاط الملكي فاسمعه المتظاهرون ما لا يود سماعه، ما اثار حفيظته وادى الامر الى عزل كبير امناء الملك فهمي المدرس، وفي اليوم التالي عمد كوكس الذي انتهز دخول الملك المستشفى الى اغلاق الحزبين الوطني والنهضة.. ومصادرة جريدتيهما (المفيد والرافدين) كما امر باعتقال سبعة اشخاص من بينهم رئيس الحزب الوطني جعفر ابو التمن ومحمد مهدي البصير ونفيهم الى جزيرة (هنجام) في الخليج العربي. وظل البصير ورفاقه في جزيرة (هنجام) حتى شباط عام 1923 حيث سمح لهم بالعودة الى العراق، وبقي البصير في البصرة الى ان سمح له بالعودة الى بغداد في 24 مايس عام 1923. وهنا انتقل البصير الى مرحلة جديدة، في حياته السياسية الثائرة ، فقد عا مهادنا للسلطة ، فأنصرف اولاً الى تأليف كتابة (تاريخ القضية العراقية الجزء به (1923/ 1924) ،وقد اصبح هذا الكتاب مصدراً مهماً عن الثورة العراقية وتأسيس الدولة العراقية، لقد خلد البصير الى الهدوء وانصرف الى التأليف والتدريس فأنتدب لتدريس الادب العربي في الثانوية المركزية ثم جامعة آل البيت في الاعظمية. لم ينظم البصير شيئاً من الشعر السياسي بعد عودته من النفي ، ولم يجد الباحثون سوى قصيدة سياسية واحدة بعنوان (عهود ام قيود)؟ انشدها في حفلة أفتتاح (الحزب الوطني العراقي) في 27 ايلول عام 1928، فقد بعث هذا الحزب ثانية ، بزعامة جعفر ابو التمن ايضاً، وكان محمد مهدي البصير عضو لجنته التأسيسية والتنفيذية، وبقي الى ان ترك السياسة عام 1930 وأوفد الى خارج العراق للدراسة. ولكن ، اليس هو القائل: قالوا: سجنت لرأي كنت تعلنه فاكتم وحسبك ما عانيت من غصص فقلت هيهات سجني لا يغيرني إن الهزار ليشدو وهو في القفص اجرت جريدة (البلد) البغدادية لصاحبها المرحوم عبد القادر البراك لقاء مع الدكتور محمد مهدي البصير بتاريخ 2 آب عام 1966 جاء في اللقاء: ... ولكن حياته لاتخلو من غموض في بعض النواحي، فبينما هو يهز المشاعر ، ويثير الخواطر بقصائده المتتالية 1920/ 1922 كما يشهد به ديوانه (البركان) اذ به يسكت فجأة ويمتنع عن قرض الشعر، كأنه لم يكن بالأمس القريب شاعر الثورة والشعب والجهاد. وقد استغربنا هذه الظاهرة في حياته ، وحاولنا إستجلاء دخيلة نفسه، وبحثنا سر سكوته، فكان لنا لقاء معه، قلت له: في حياتك ظاهرة عجيبة ، فقد كانت قصائدك تتوالى، ولكنك سكت فجأة وعلى غير انتظار قبيل نفيك الى جزيرة هنجام عام 1922 ، فما معنى ذلك؟ صمت قليلاً، ثم عاد ليقول: معنى ذلك ياصديقي أني طلقت الشعر فجأة ولسبب قد لايوجد على مسرح الحياة من يعرفه غيري.. ففي يوم من ايام حزيران عام 1922 صرح المستر تشرشل وزير المستعمرات البريطاني يومئذ في مجلس العموم ان ملك العراق وشعبه يرحبان بالانتداب البريطاني
كيف طلق البصير السياسة وشعرها؟!
نشر في: 20 يناير, 2010: 04:58 م