5-7
الأمر الوحيد الثابت هو أن سنوات 1947 حتى عام 1951 كانت من أحلك الفترات المظلمة بالنسبة للعراق، عندما قرر اليهود، الذين شكّل قسم كبير منهم النخبة في العراق، الهجرة من بلاد وادي الرافدين. الهجرة كانت أيضاً امتحاناً صعباً للطوائف الأخرى أيضاً، التي وقفت موقف المتفرج ولم تفعل ما يمكن أن يوقف تقوّض واضمحلال «جالية» يهود بغداد أو جالية بابل إن شئتم، أقدم جالية يهودية في العالم، في بداية 1951. ففي سنة بداية الهجرة الجماعية المنظمة لوحدها انتقل إلى إسرائيل 120 ألفاً من يهود العراق، واختفت معهم معالم كافة جاليات المدن العراقية كلياً، ولم تُبقِ موجة الهجرة هذه (التي سُمّيت «عملية عزرا ونحميا» التي أشرفت عليها منظمة الهاغاناه سابقاً، والموساد لاحقاً) في بغداد إلا على أكثر من عشرة آلاف يهودي، حتى هؤلاء غادروا بغداد في العقود الثلاثة التالية في موجات متقطعة، (خاصة بعد حملة الإعدامات والاعتقالات التي ارتكبتها السلطة البعثية في أواخر الستينات والتي طالت مواطنين عراقيين عديدين بينهم يهود، من لم يُعدم منهم، أُلقي في السجون، منهم الطبيب المعروف الدكتور داوود كباي في زنزانته الانفرادية في قصر النهاية!). مجمل الأمر أنه بعد إعلان قانون تسقيط الجنسية، الذي أتاح ليهود العراق مغادرة العراق بدون رجعة، وجد معظم اليهود أنفسهم ممزقين، مرتبكين، متخبطين، ترتّب عليهم أن يحسموا مصيرهم ومستقبلهم فجأةً، وفي النهاية هاجرت الأغلبية الساحقة من أبناء الجالية إلى إسرائيل بين عامي 1950– 1951.الحياة الغائبة، الحياة تلك بكل ما حوته من تقرير مصائر وتعقيدات، وجدت تجسيدها في روايات الكتّاب البغّادة الثلاثة هؤلاء بصورة واضحة، بل ظلت هي المادة، الخلفية، التي اعتمدت عليها كل كتبهم اللاحقة. من يقرأ رواياتهم التي دارت أحداثها في بغداد تلك الفترة لن يشك أنها روايات عراقية بامتياز، لا يهم أنها كُتبت بالعبرية كما هي روايات شمعون بلاص وسامي ميخائيل. بغداد حاضرة بقوة في العديد من روايات وقصص شمعون بلاص: في المعبرة، المنشورة عام 1964، وفي رواية وهو آخر، المنشورة عام 1991، التي تحكي قصة أحمد نسيم سوسة، اليهودي الذي أسلم في الثلاثينات وأصبح إحدى الشخصيات المركزية في مؤسسات السلطة، بل حتى في روايتيه المكتوبتين للأطفال أشعب من بغداد وطنبوري.أما في قصص وروايات سمير نقاش فتحضر بغداد منذ عنوانها، لأن عناوين رواياته ظلت تستخدم اللهجة البغدادية الصرف، كما في رواية فُوَّة يا دم، التي تدور أحداثها في بغداد أواخر ثلاثينات القرن العشرين حول ثلاثة رجال من عامة الشعب البسطاء، يجابه كل منهم ذات صباح يوم أحد مشهود تجربة غيبية رهيبة مروعة، فيأتي الثلاثة إلى دكان شاي خليف ليستفتوا أخاه سَفاني، الثائر المتمرد على أخطاء الكون، عرّافهم الأكبر وكاهنهم الأعظم، فيما عانوه وشاهدوه، لكنهم عوضاً عن أن يلتقوا بسفاني تطالعهم كفّ دموية مبصومة على طاولة الدكان، فيتوقف بهم الزمن عند يوم الأحد ذاك (كأن نقاش أراد أن يقول إن الزمن توقّف عنده أيضاً في بغداد، في ذلك اليوم الذي غادرها وهو صبي). وعنوان الرواية هو استعارة صيغت على شكل نداء من نداءات الباعة، و"الفوّة" نبات أحمر السيقان يُستعمل في الصباغة، أما الدم فسلعة يُنادى عليها في الأسواق تشبيهاً بهذه النبتة الحمراء للترغيب به وعليه. أو في رواية نزولة والشيطان، التي تستخدم كلمة «نزولة» التي كانت تعني المستأجرين في اللهجة البغدادية، جيران الأحياء الشعبية في بغداد التي اندثر أغلبها، أو كاد. كانت البيوت في تلك الأحياء شرقية الطراز أصيلة، في كل بيت يوجد حوش (صحن البيت)، إيوان، سرداب، بيتونة، كافشكان وشناشيل، أما الغرف فهي من حول الحوش (الصحن)، تتكون من طابق أول وطابق ثان. في كل غرفة تقيم عائلة، أحياناً للميسورين غرفتان. في المنزل الواحد تنزل عوائل عدة، أو أفراد. لم يكن من غير الطبيعي ألاّ تقطن المنزل الواحد أسرٌ مسلمة ويهودية (كما حدث في هذه الرواية)، الكل هم بمثابة أخوة للبعض، «نْزولَه في بيت». أما نسيج العنكبوت فهو «خيط الشيطان»، العنكبوت يتحدى الإنسان وينسج شراكه، وعندما ينسج خيوطه ينسجها ليصطاد الحشرات، ولكن من نكد الطالع أن الإنسان أيضاً لا يفلت أحياناً من هذا الصيد. ورواية نزولة والشيطان، كما وصفها سمير نقاش بنفسه، هي «أحداث دائرة ضمن زمن سائب يرسو أخيراً في مطلع خمسينات القرن العشرين، من حيث بدأ نزوح يهود بغداد عنها».
يتبع
ثلاثة كُتّاب.. ظلت بغداد كل حياتهم
[post-views]
نشر في: 15 مارس, 2016: 09:01 م