أسخر وأهزأ وأشعر بخيبة أمل كبيرة في مستقبل البلاد هذه، كلما نشرت مواقع قيادة الشرطة في محافظات الجنوب خبر القائها القبض على كمية من المشروبات الكحولية، وأستهجن بطولات الشركة الزائفة أمام ما يحدث من خروقات أمنية في مدننا، وأقف ممتعضاً من أداء القوات الأمنية العاجزة عن حسم نزاع بين عشيرتين في البصرة، ولا أجدني ملزما في الثناء على أعضاء مجالس المحافظات وهم يصوتون بالإجماع على منع بيع وشراء وتداول الخمور في البصرة والناصرية والعمارة وانا اجد الرجال والنساء والاطفال حتى من الشيعة وهم يتفننون في بيعها سراً وعلانية في بعض البيوت وفي الازقة وعلى الوزوازات والستوتات، وأشعر بوضاعة أنفس رجال الشرطة في نقاط التفتيش القريبة من هؤلاء وهم يسمحون لهم بممارسة مهنتهم هذه مقابل حفنة دنانير، مقابل بطل عرق أوزو سفن أو كارتون بيرة بولاند، أم القوطية الخضرة.
بحدود علم الجميع، بما فيهم الحكومات المحلية، أن لا أزمة في الخمور، في محافظات البصرة أو ذي قار أو ميسان أو واسط ولا حتى في كربلاء، وهي متاحة ومتيسرة لمن يبحث عنها، وهناك شبكات تعمل على المتاجرة بها، تتفنن في جلبها من بغداد او من كردستان او من تركيا والاردن، وليعلم المتشددون دينيا في المجالس المحلية بأن الدولة وإلى اليوم تستوفي الرسومات الجمركية وتستحصل الضرائب على الخمور المستوردة عبر منافذنا الحدودية، كأي بضاعة داخلة للعراق، بمعنى أن المرتبات التي يتقاضونها من الدولة هي موضع شبه عندهم، فهي من النوع المسمى بالمخلوط في الحرام، فلا مزايدات ولا بطيخ، وهم يعلمون علم اليقين بان البعض من رجالات حماياتهم وموظفي مكاتبهم يتعاطونها ويجلبونها بسياراتهم المظللة، تحميهم هوياتهم التي يحملونها، ويتجاوزون بها السيطرات الكثيرة بين بغداد والبصرة، ولا أحد بينهم يعتقد بأن مسيحيا واحداً في البصرة قادر على جلب بطلين في حقيبته، هنالك رجال أقوياء، يؤمنون حاجات المدن من كل أنواع المشروبات هذه.
يقول أحدهم بأنه يشتري خمرته من امرأة مسلمة شيعية بالبصرة، تعمل مع اثنين من أشرار أبنائها على بيعه، فهي تجلس في دكان بسيط، تبيع فيه الماء والمشروبات الغازية لكنها تبيع لمن تعرفه (معميل) العرق والويسكي والبيرة، وحين تعجز يقف طفل بعمر العاشرة يساعدها في عملها، ولا تجد الحرج في ذلك فكيس أسود كبير يكفي لتمويه ما فيه. ويقول آخر بانه يدخل كمتبضع لأحد البيوت، ولا يجد رهبة من رجل الشرطة الذي يجلس بالقرب من البيت، فقد أعلمه صاحب البيت بان الشرطي (ماخذ حصته) ويعلمني صديق بأنه يعتمد على ستوتة عباس ففي قنبورتها ما لذّ وطاب، وعنده خدمة التوصيل للبيت. وهكذا، وبفعل غباء وسوء أداء الإدارات المحلية تحولت المرأة الى بائعة خمرة وتحول الطفل الى شريك معها وكذلك أصبح رجل الشرطة الشريف مرتش ومثلهم صرنا نتحدث عن عباس ومحمد وفاروق وسركيس.
منذ سنوات طويلة، وقبل أن تصبح ضاحية الكزارة، المزدحمة بالسكان والقريبة من مركز العشار الى جزءٍ من سوق المدينة، رفض صاحب محل لبيع المشروبات (المسيحي)ان يبيع أحد القاصرين من أبناء زبائنه قنينة عرق، قائلا له: "روح لأبوك، وقل له أسكيناس ميقبل يبيعلي" وفي باب بار ديانا، بشارع الوطني، بداية الثمانينات رفض الشرطي إدخال صديقي، الناعم لأنه اعتقد بان عمره كان أقل من 18 سنة، وفي نادي البريد شاهدت بأم عيني، كيف يقوم موظف الصحة المختص بفحص قنينة البيرة، نوع فريدة، خشية أن تكون فاسدة.
حماية المجتمعات لا تقوم على آلية المنع والحجب إنما تقوم على أساس العقل والحكمة وتطبيق القوانين وفرض النظام الصحيح في التعامل مع ما تعتقد على أنه مضر اجتماعياً. يسألني أحدهم عن أيهما أخطر على صحة الشباب: الخمرة أم النركيلة ؟ فأقول الأثنان معا، إن فسدت الدولة. ليست القضية في ما تتيح وتحجب، القضية في ما تشرع وتراقب وتتصرف وفي ما تحتكم الى العقل والمسؤولية.
خمر متاح وبيع محظور.. لكنْ!
[post-views]
نشر في: 15 مارس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...