أخذت الحماسة المتظاهرين الملوّعين بالعملية السياسية، فتناثرت شعاراتهم وهتافاتهم في كلّ اتجاه، ولم توفر طرفاً أو جماعة أو شخصيةً لها باعٌ فيها، سواءً كانت هذه الشخصية مستوزرة في الحكومات المتعاقبة منذ التغيير، أو من القيادات المقررة في الأحزاب والكتل
أخذت الحماسة المتظاهرين الملوّعين بالعملية السياسية، فتناثرت شعاراتهم وهتافاتهم في كلّ اتجاه، ولم توفر طرفاً أو جماعة أو شخصيةً لها باعٌ فيها، سواءً كانت هذه الشخصية مستوزرة في الحكومات المتعاقبة منذ التغيير، أو من القيادات المقررة في الأحزاب والكتل النيابية وفي حالات الاحتقان والغضب لا يسلم بعض ضحايا العسف والفساد أحياناً من الشطط، من دون قصدٍ، بتعمّد توجيه إساءة أو تعريض شخصي، فتناولهم ظاهرة بعينها طالت نتائجها الكارثية أوسع الأوساط الشعبية، بالاندفاع في صبّ جام غضبهم على مسؤول أو جماعة بعينها أو طرف سياسي موصوف، يجعل الظاهرة متلازمة مع حواملها وتعبيراتها، قادةً كانوا أو وزراء ومسؤولين.
وبطبيعة الشعارات الطيّارة العفوية التي تنطلق في التظاهرات الجماهيرية، خارج ما اعتمدتها قيادتها، يختلط في الغالب الحابل بالنابل، فيُساء فهمها ودوافعها ومحرّكوها. وليس هذا غريباً على ما شهده "عراقنا الجديد" الذي لم يحصد خلال السنوات التي أعقبت التغيير عام ٢٠٠٣، سوى الخراب والتدمير والقتل على الهوية، وانعدام الخدمات والبطالة وأنواع مستحدثة من العسف والتغييب، في بيئة تسيّد فيها لصوص المال العام والفساد الإداري والمالي، وتوسعت على هامشها دائرة التحريم والتكفير. ولأنّ الصدارة في الدولة والمشهد السياسي تزاحمت فيها، القوى والأحزاب والشخصيات المنضوية تحت عباءة الإسلام السياسي، طاولت الشعارات "العباءة" دون المتستّرين تحتها. وفي ظروفٍ معقدة، كما هي الظروف التي تحمّل أقدارها النَكِدة غالبية العراقيين، الفقراء والمعوزين منهم بوجه خاص، وهم يقرؤون الواقع الملموس، وليس "فذلكاتها الفلسفية" كما يفعل المثقف والمفكر والسياسي المُحنّط. وعباءة الإسلام السياسي ليست هي في كل طَويةٍ فيها امتداد للإسلام والدين الحنيف، وإلّا لتلاقى إسلام السيد السيستاني مع المتلفّعين بتلك العباءة التي ملأت البلاد جوراً وفساداً وعسفاً ونهباً وأغرقت معاني الإسلام وقيمه ما جعل المؤمنين بها في حالة من الانفصام تحيط بهم الريبة والتساؤلات. وفي تساؤلاتهم آثارٌ داميةٌ غرستها فرمانات دعاة الإسلام السياسي التحريمية التي تحرّض على القتل والإقصاء وإلغاء الآخر بارتجاعاتٍ دينية وطائفية، وتلوّح بها في كل منعطف تزداد الأوضاع فيها سوءاً وبلاءً وتدهوراً وانحطاطاً. وهذا الخلط بين المتدثّرين بالعباءة والمساحة المضيئة للدين الحنيف، كان السبب في عدم التمييز والفصل بينهما، مع إدراكٍ واعٍ بالاختلاف في المرجعيتين، وفهم لجوهر الاختلاف الذي يتجسد في تطويع الإسلام السياسي للدين والمذهب خارج سياقاتهما العقائدية الإيمانية وتوظيفهما لمصالح دنيوية حزبية فئوية، أثبتت الوقائع خلال سنوات اعتمادهم المحاصصة، فسادها أهدافاً ووسائل عملٍ وأساليب في الحكم، ولم يكن شعار:"باسم الدين باكونه الحرامية "سوى انعكاس لهذا الخلط، ونتيجة لإيحاءات حكام الصدفة بأنهم "حماة الدين والعقيدة والمذهب" ولهم الحق بتحويلها الى فرمانات تحريمٍ وقسرٍ وعسفٍ بلفائف الرثاثة والفهم المنحرف والقاصر..! المتشددون الأكثر انفصاماً عن القيم الدينية والأزيد تطويعاً لها خارج سياقاتها في خدمة مصالحهم وتغطية فسادهم وانفلاتهم في الترويع والتجاوز على الممتلكات والحقوق والكسب غير المشروع، حاولوا إظهار الشعار كما لو أنه يستهدف الدين، لا الفاسدين المتلفعين بعباءته من القتلة الملّوحين بالسلاح ومظاهر القوة خارج مؤسسات "الدولة" ونهّابي المال العام، والحكام الذين فاحت روائح مفاسدهم وتلاعبهم بمقدرات عباد الله العراقيين، "فعطنت العباءة" ولم تعد تصلح للتدثّر والتخفّي والمناورة باسم الدين والطائفة!
لم يكن الشعار دعوة مضادة للدين والتديّن، لكنه كان دون شك تعريضاً وتشكيكاً وفضحاً لمن حوّلهما الى وسيلة للتحكم في رقاب الناس والتجاوز على الحقوق والحريات وأوصل البلاد الى حافة هاويةٍ لم يتبين قاعها بعد.
لكن رسائل أخرى قد تكون حمّالة أوجه أو يطيب للبعض تفسيرها على هواه ووفقاً لمراميه ومصالحه، ومنها ما ارتبط بالدعوة الى الإصلاح وباقتران التغيير بإنهاء المحاصصة وعبور الطوائف. وليس ثمّة ارتباط بين إنهاء المحاصصة ومنظومتها الطائفية، وحرمان الأحزاب والكتل داخل العملية السياسية من أدوار ومواقع في الدولة وسلطتها السياسية في إطار ما تفرزه المنظومة العابرة للاديان والطوائف والعشائر، المبنية على قاعدة المواطنة الحرة المتساوية في دولة المؤسسات والحريات والحقوق والقانون. ومثل هذه الأدوار يمكن لها أن تتحقق في ظل حياة حزبية يُنظمها قانون أحزاب ديمقراطي وانتخابات نزيهة ممكنة في ظروفنا الملتبسة بتعاون مع الأمم المتحدة بالاستفادة من تجربتها الأممية، وبإدارة مفوضية "مستقلة " حقاً منزهة عن التدخل والمحاصصة والنزوع خارج السياقات التي تفرضها طبيعتها ووظيفتها وهدفها. ومثل هذه المفوضية تتطلب هي الأخرى الاستعانة بالخبرة الأممية.
أدوار أحزاب وكتل "العملية السياسية "الراهنة محفوظة إذا ما نزعت عنها عباءة الإسلام السياسي وخطابها وشعاراتها الإسلاموية، وليس تخليها عن القيم والمبادئ وشعائر التدين بعيداً عن الممارسة السياسية في إدارة الدولة والسلطة وقسر المجتمع.
وهذه رسالة لا تقبل التأويل، وليس لها أهداف تضليلية او تخديرية أو تنطوي على تكتيكٍ إقصائي، ومن هذا المنطلق يمكن القول ان مبادرة قوى العملية السياسية لتبني مشروع الاصلاح العابر للمحاصصة الطائفية، إنما يصب في خانة مصالحها، ويمهد لتعزيز دورها في الدولة المدنية اليمقراطية المنشودة. وليس كما يتوهم البعض انه يقوض مواقعها ويضعف دورها في رسم مستقبل العراق الديمقراطي التعددي الاتحادي.
وصناديق الانتخاب، رغم ما يُقال عنها، ستبقى حتى أجلٍ غير مسمى سيدة الموقف والقرار..!