في لحظات الاندفاع أثناء حركات إصلاحٍ أو احتجاجاتٍ غير محسوبة تفاصيل أهدافها ونهاياتها، وتتطور بفعل ديناميتها، يتعذر التقييم الموضوعي ويبدو النقد، مهما كانت النوايا، مشبوهاً او مشتبهاً بدوافعه، وتكون نتائج الصمت في مثل هذه الأحوال أشد ضرراً من تحمّل ا
في لحظات الاندفاع أثناء حركات إصلاحٍ أو احتجاجاتٍ غير محسوبة تفاصيل أهدافها ونهاياتها، وتتطور بفعل ديناميتها، يتعذر التقييم الموضوعي ويبدو النقد، مهما كانت النوايا، مشبوهاً او مشتبهاً بدوافعه، وتكون نتائج الصمت في مثل هذه الأحوال أشد ضرراً من تحمّل الاشتباه في الدوافع، فالفعل السياسي والحركات الاجتماعية، حتى الجنينية منها، تخضع لقوانين ولآلياتٍ تتناسب مع شروط انبعاثها وطبيعة قواها المحركة ومدى تجانس مكوناتها من حيث الأساليب والمهام والأهداف المرحلية والنهائية.
وليس لما يُسمى بالفعل أو الحركة "العفوية" معنىً معزول عن شروطه الموضوعية أو بصورة أدق خارج فعل القوانين الاجتماعية، بقدر تعلق الأمر بالتطور الاجتماعي وحركاته وتناقضاته، سوى أنها لا تظهر في سطح الأحداث، أو تُعبّر عن نفسها بصيغٍ غير مألوفة او غير متوقعة. ومثل هذه الظاهرة تجد انعكاسها أيضاً في ما نتوهم كونها "طفرات تطورية"، سواءً كان ذلك في الطبيعة او المجتمع أو الكون الفسيح، وفي كل العلوم التطبيقية منها على وجه الخصوص. ولم يقدم تاريخ التطور البشري ما يخالف هذا الناموس، فالطفرة غير المحسوبة سلفاً هي حصيلة دفقة في التراكم الكمي تستعصي على "القياس" حين يكون قد بلغ لحظة التحول النوعي.
وما دمنا نواجه بدايات "انتكاسة" في الأمل وتراجعٍ في الخيارات كشفت عنها وقائع تسربت من الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء، وغير ذلك من مظاهر "تصادم الإرادات والمصالح" داخل العملية السياسية وفي كواليسها، دعونا نلهو مع تجربة "قياسٍ" افتراضي لفهم ما اذا كان واضحاً منذ البداية استعصاء إصلاحٍ عابرٍ للطائفية بأدواتِ منظومتها وآلياتها.
ولنفترض أن السيد العبادي خالص النيّة وجادٌ لا تشوب جديته شكوكٌ او أوهام، وهو ينطلق في إطلاق مشروعه الإصلاحي من استنتاجٍ سليمٍ بأن المنظومة والآليات والأدوات المتحكمة في إدارة الدولة وسلطاتها الثلاث، ليست عائقاً أمام إيقاف تدهور الأوضاع وانحطاط أحوال البلاد، إنما هي منتجةٌ للأزمات ومحركة لها وحاملة لأهداف تعبيراتها الاجتماعية -السياسية.
والافتراض يقود الى أن السيد العبادي يدرك أن البيئة التي تشكل حاضنة هذه المنظومة تتمثل في الفساد المالي والإداري ونهب ثروات البلاد وتجفيف مصادر ثرواتها الطبيعية وانتهاك شروط نمو وتطور ثروتها البشرية، وتخلق في نهاية المطاف ثنائية "الفساد -الإرهاب"، وتشهد على مصاهرتهما وعقد قرانهما في "نكاحٍ شرعي" مع جهاز الدولة "اللادولة" الفاشلة المتفسخة .!
ولن يبقى أمام السيد العبادي في، لحظة حماس، غير أن يعلن النفير العام ويطلق أولى حزمه الإصلاحية التي لم يتحقق منها سوى ترشيق بعض الوزارات والإبقاء على ترهلها، ويواصل دعواته غير المنقطعة لتحقيق الإصلاح مشدداً على طبيعته العابرة للمحاصصة الطائفية. وأكاد أتفهم دوافع ما كان وراء دعواته، ولا أشكك بأنه كان يريد لها أن تنجح. كما لست متيقناً مما إذا كان يستهدف الإضرار بقوى المنظومة السياسية القائمة، او انه يعتقد أن بإمكان الإصلاح أن يجد في مساحة ما من تجاوز المحاصصة الطائفية، موقعاً ودوراً لقواها النابذة لمنظومتها!
ولأنه أغفل ما سيواجه من آليات "دستورية" واستحقاقاتٍ "انتخابية"، وإراداتٍ تتكئ على ميليشيات مسلحة لها امتداداتها في أجهزة الدولة ومؤسساتها تفوق قدرات بعضها في بعض الجوانب قدرات الدولة وإمكاناتها. كما لم يحسب أو أنه استهان بحواضن الفساد وسوقه الموازية وشبكاته المندمجة مع اللجان الاقتصادية والمصالح المترابطة مع الطبقة السياسية المتنفذة في الدولة والسلطة التي أشار اليها في اكثر من مناسبة، وأرسل اكثر من إشارة صريحة بأنها قد تستهدف حياته ..!
لكنه، كما يبدو، أو لنعتبر هذا أيضاً من الافتراضات، أسقط من الحساب أن عليه الشروع بالإصلاح ومكافحة الفساد من داخل حزبه ثم كتلته ومن ثم تحالفه، ليكرس مصداقية مشروعه الإصلاحي ويجعل منها مدماكاً يتعكّز عليه، ويجمع حول بؤرة تدابيره العملية وخطواته الاولى تحالفاً سياسياً -جماهيرياً داعماً، وليتمكن من إجراء فرزٍ إيجابي متفاعل داخل هذه الأطر كلها، دون استثناء، تكون قاعدة لإشاعة الإرباك والتخلخل بين المنظومة المتحجرة صاحبة المصلحة في حماية نظام المحاصصة الطائفية وتفكيكها كتحصيل حاصل.
ولنواصل لهونا السياسي ونتحقق من أن الصيغة التي أقدم على إعلانها وما اعتمد لتطبيقها من وسائل وأدوات، كانت قمينة بالتنبّؤ باستعصاء إمرارها ونجاحها، فإلى جانب اصطدامها بالإرادة الواحدة المقررة في السلطات الثلاث المتحكمة بالقرارات المصيرية، بل وحتى ما هو ثانوي في مصائرنا، بالتلازم بين السلطة التشريعية "مشرع الانظمة والقوانين" والسلطة القضائية، أداة تطبيقها، والسلطة التنفيذية. وفي كل هذه القنوات سيواجه العبادي يداً واحدة تُرفع وتنذر وتهدد ولها القرار في النهاية.
بقي أمام السيد العبادي وهو افتراضٌ أخير، أن يعتمد إرادة الشارع، مدعوماً بالمرجعية المتعاطفة، ومسنوداً بتفهم وعون عربي وإقليمي وأممي، مفتوحاً على قوىً يفرزها الصراع داخل التحالف الوطني والكتل النيابية الاخرى.
وما دمنا نلهو، فلابد من السؤال كيف كان لذلك ان يتم والسيد العبادي قد وضع طي الكتمان كل ما يفكر به، وحجر على أسماء مستشاريه وفرق عمله، وتردد في اتخاذ خطوات "ميسّرة" تدخل في إطار صلاحياته، بتصحيح التشوهات التي أصابت جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها من خلال اعتماد "واو واو"(الوكلاء) سيئة الصيت، ولم يَقدِم، في سبيل "المثل الحَسَن" على تغييراتٍ
"تكنوقراطية" على مقاس مفهومه في ما سُميت زوراً وبهتاناً الهيئات "المستقلة"، والمعترضون على تغييره الوزاري يتعكزون على ان غالبية رؤساء هذه الهيئات هم من كوادر حزبه وكتلته؟
كيف لنا ان ننهي لهونا دون أن نُذكّر السيد العبادي بانه إذا كان صعباً تشخيص رؤوس الفساد، ويبدو أن الذيول هي الاخرى مستعصية، فإن العقارات التي تستولي عليها أحزاب السلطة والقصور التي يسكنها القادة المعروفون في المنطقة الخضراء والجادرية وغيرها، معروفة للقاصي والداني.
وأنا على استعداد لمتابعة اللهو البريء معه وإرشاده بالدليل القاطع على ما أقول، وأشهد على قولي بما قاله وفعله الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري وهو يخاطب معاوية بن أبي سفيان.!
جميع التعليقات 2
ياسين عبد الحافظ
لمذا الاصلاح من الاسفل؟ لانه مهندسا عبقريا ، ولان الرنامج تاريخيا واعدا ، قرر ان يبدء من الاسفل لماذا؟ لو ابدء من الاعلى ، نزولا ، ستصيح قاعدة الفساد وتصرخ معلنة التوبة، وربما سيشكل صراخها وعويلها نقطة ضغط على البرنامج فيقف قبل ان يحقق اهدافه الكاملة وه
خليلو...
دعني أقول لقرائك: لما نفي ابو ذر الغفاري الى الشام واراد معاوية استمالته بالعطايا ، وكان قد بنى قصرا لنفسه واسمه الخضراء ايضا فقال له : يا هذا إن كنت بنيته من مال المسلمين فذلك خيانة وإن بنيته من مالك فذلك إسراف والله قد نهى عن كلتا الصفتين. ( يبدو أنهم