الجزء الثاني من مذكراتها صاخب وهادئ، طيّع ومتشنج ومتوتر، لأن الزمن أخضعها لذلك بسبب الأحداث الدموية التي تعرفت عليها في فيتنام ويوغسلافيا. ولا نعرف شيئاً عما سيتضمنه الجزء الثالث، والذي نتمنى على الأستاذ عباس المفرجي استكمال مشروعه والمدى داعمة له حت
الجزء الثاني من مذكراتها صاخب وهادئ، طيّع ومتشنج ومتوتر، لأن الزمن أخضعها لذلك بسبب الأحداث الدموية التي تعرفت عليها في فيتنام ويوغسلافيا. ولا نعرف شيئاً عما سيتضمنه الجزء الثالث، والذي نتمنى على الأستاذ عباس المفرجي استكمال مشروعه والمدى داعمة له حتماً. كانت أكثـر اضطرابا وخضوعاً لمرضها المركب، السرطان أولا وحالتها النفسية التي هي أكثـر حضوراً وتبدّياً واضحاً في مذكراتها. لكني لا استطيع تجاهل حضور الموت المستمر في هذا الجزء من يومياتها، حتى مشاهدتها لفيلم قصير ( أم طويل ) عن الثياب وتتابع بدقة مشهد الأزياء الاكليركية في فلم فليلني " روما " وتدل على الموت. فقدت الأزياء الماثلة أمامها وهي في باريس 20/1/1974 كل ما توحي به سيمائياً.
هذا الرأي كشاف عن حالة القلق والفزع واستحالة التوصل الى ما قالته سونتاغ عن العلاقة مع الصورة، وبعكس الذي قالته فإن الإنسان / الكائن سيربك وهذا ما تريد هي الإشارة إليه والتأكيد عليه، حتى ما هي عليه لم تقله مكشوفاً، ومفتوحاً، بل دائماً ما لاذت بأسماء أخرى ودونت ما هو لهم، وحتما ما فعلته وتكرر كثيراً، يعبر عن موقف ذاتي وينكشف هذا واضحاً حول علاقتها بجسدها، وما ذهبت إليه من حسيات، لذا اعتقد بأن ديفيد ريف " كما يسخر الوعي للجسد " لم يكن اعتباطا، بل هو التقاط جوهري لما تعرف عليه من الذي لم نطلع عليه، لكننا نكتفي بما هو موجود. لان النيتشوية صاغت سوزان سونتاغ التي جعلت من جسدها مطلقاً للنداء، وكلنا نتذكر ما سجلته في الجزء الأول، كيف استجاب جسدها لضغطة رجل وقف قريباً منها وشعرت بأنها ارتعشت. وتحقق لها اتصال غريب جداً. دائماً ما فكرت بعلاقتها مع الشاعر جوزيف برودسكي بنوع من هيمنة الجسد. جسدها والآخر وكانت تزاول متعتها تخيلياً. وهي بذلك تعلن نيتشويتها وتعطي الجسد حريته وتلقنه ممارسة تفاصيل الحسيات، والتمرد على تحالفات السلطة الثقافية والسياسية الساعية لاستثمار الجسد اقتصادياً. هي تنحاز هنا الى جانب ميشيل فوكو. واعتقد بأن موقف سوزان سونتاغ من التعطل والموت، لا يبتعد كثيراً عن الرفض الكلي للموقف السلطوي المعروف عن الدولة، ودعوتها لتكريس مؤسسات الدولة ودعمها، على حساب تهميش / الجسد وإذلاله من اجل رفعة الدولة. وتنطوي اليوميات المتأخرة، أي الأعوام الأخيرة من عقد السبعينات على اشارات صريحة وكاشفة عن هوس سوزان سونتاغ بالجسد، واقترانه بالوعي الذي يفسح له مجالاً كاملاً لحرية النشاط المتعي واللّذي، وعلى الرغم من ذلك استدعت الموت، هذا الوهم / والحقيقة المطاردة لها، والحاضرة في يومياتها. لذا لم تجد شيئاً مهماً يضغط ليتحول الى رواية. هذا ما قالته سونتاغ وتساءلت لماذا ؟
حضور الموت في اليوميات انعكاس لما تعيش هي فيه، وما تعرفت عليه من فظائع الدمار والقتل والبشاعة الأمريكية في فيتنام، والتي جعلتها في مهب الريح، واختلال العقل الذي طفرت منه مبكراً بهداية نيتشه، ولذا قالت ما هي الأخلاق ؟ أنا غير أخلاقية.
الموت حضور حاضر، تتحدث عنه بشكل مباشر، مثل حديثها عن رولان بارت أو تنقل مستلات، من دوستوفسيكي مثلاً.
احتقار، لا نقمة : هناك شيء واحد يفزعني، أن لا أكون جديراً بمعاناتي به وسجلت هي متماهية مع دوستوفسيكي : "هناك شيء واحد يفزعني، أن لا تكون معاناتي جديرة بي". لكنها تناقض ما قاله دستوفيسكي وهي أيضا، عندما تعيد تسجيل ملاحظة بريسون في " ملاحظات عن السينما تواغراف " حين يقول في السياق الفني كلّ ما يهم هو النهاية. حتى ما قالته عن ليفي ديكنسون حول الفن الذي لن يكون غير منزل أشباح.
ووسط ما كانت تعانيه ومحاولتها التكتم على ذلك، لكن منقولاتها تختزل لنا مساحة الإرباك والقلق التي تسيدّ عليها لاحقاً. كل هذا والفوتوغراف له حضور مهم والأبرز في ذاك الحضور أراء كافكا المركزة العميقة والجديدة المشحونة بالتوتر، والإبلاغ عن شيء لا نستطيع التكهن به في اللحظة. كذلك هي سجلت أكثر من رأي عن الفوتوغراف وكأنها فلته لسان : هي مسألة وقت ـ حين ترد الصورة، يجب أن تسبق الصورة التي في الذهن أو تتزامن معها. عدا ذلك، ستربك.
تزوغ أحيانا، معتمدة على وعيها وخبرتها الثقافية والمعرفية، كما أن بعض اليوميات مكتفية بما انطوت عليه من تلميح بيّن عن الجسد باعتباره موضوعاً وجودياً ومعرفياً، أو بشكل أدق يمثل الجسد انطولوجيا معرفية. وكل ما قاله نيتشه نوع من دعوة لتحرير الجسد، والتعالي به، لأن نيتشه فيلسوف تدميري ويحاكم كل المشروع الثقافي الغربي الذي أعلن بشكل صريح حرباً قوية على العواطف والغرائز والمتآمر على الجسد، وفي هذه العملية أو التمظهر الثقافي الضاغط ضد الحياة، كان،وظل، نيتشه ملاحقاً الدين والأخلاق ( وهذا ما أعلنته سوزان سونتاغ بشكل صريح ) من اجل أن يحقق نوعاً من الاحتفاء بالوعي والممجد للجسد، والمانح له حرية مزاولة الحسيات، لاختبار طاقته وقدرته. كما كشفت قناعات سوزان سونتاغ عن دهشة، لان الجسد الإنساني أصبح ممكناً، بمعنى أصبح حدثاً قابلاً للتعيين والتحديد. وهذا معلن بوضوح تام : " تقليد تصوير الشباب العراة، انتقل من الفن الإغريقي ـ الروماني الى المسيحية. كان مثلياً جنسياً ـ هو الآن مادة لتأمل ايروتيكي من قبل النساء غالباً والرجال....... مرّة بعد الأخرى، أكون متأثرة بالهوس الايروتيكي الذي يأخذ مكان الصدارة في المسيحية. العذراء ـ صدر العذراء الأم ـ المرأة المنتشية ـ الحواري الحبيب / مائلاً على يسوع. الجسد الذكوري المعذّب، العاري تقريباً / ص 518//
ليس الصداقة والتعرف الجيد مع الياس كانتي هي التي جعلتها متطرفة وبحماس للعلاقة معه، بل لأنه يمثل قناعاتها الوجودية وأهمها كراهية الموت. وبالإضافة الى ذلك، فهو مبدع كبير لا يذهب باتجاه الاختزالية، بل الى ترك الأشياء مثلما هي ويجعلها مجالاً يومئ للكل. كانتي لا يسال أبدا ما الذي يجعل فكرة ما ممكنة بل : هل هي حقيقية ؟؟
ولان كانتي كاره للموت، منفتح على لذيات الحياة انه ( شره، شهوة توق شديد،، تشوف، اشتياق، نهم، نشوة، ميل، هل هذه هي حياة العقل ؟ اختزلت حياته كلها، بكراهيته للموت وممارسته لمزاولة ما يجعل من حياته سعيدة، وهانئة. بمعنى هو ضد العقل.
وعودة مرة ثانية للوعي ـ حسب نيتشة ـ لا يشكل أصل سلوكياتنا وإنما هو مجرد سطح، أما العمق فيكمن في الجسد والقوى اللامتناهية، بل أن نشأة الوعي ارتبطت بنقص في الجسد، اذا الوعي والفكر هما عارض لنقص نسبي في الجسد، انه قلق ناتج عن نشاط عصبي مبالغ فيه، لذلك لا نعتبر أن الشيء يكون كاملاً إلا اذا ما وقع انتاجه بطريقة. أن الإلحاح المستمر والمتكرر على حق الجسد في ما يريده من حسيات، هو ما تسميه سوزان سونتاغ " الوصول الى الجوهر " والدنو من " الدرجة صفر " وهي التي قالت ( لا شيء غامض لا علاقة إنسانية، عدا الحب ) ص 127//
على الرغم من تمردها الواضح، ومواقفها الاجتماعية، لم تومئ بالسكون، بل متحمسة للحركة والجدل، والانغمار بجغرافية أوسع من العلاقات / والصداقات الحسية. لذا فهي غير حذرة من الاعتراف ( أنا لا أحب نفسي إن أحببتها يوماً ! ) كيف يمكنني ذلك، والشخص الوحيد الذي وثقت به يوماً رفضني ـ الشخص الذي جعلته الحكم + المنشئ، القابل على الحب، اشعر في أعماقي بأني وحيدة، معزولة، غير جذابة " كما لم اشعر من قبل أبداً، كم كنت مغرورة + سطحية " احس بنفسي غير محبوبة ص 128// أخيراً هكذا تتصور، في نهاية 1977: أنا أعيش فقط في الحاضر + المستقبل وتختصر، ما تعنيه بالنسبة إليها منقول : الحياة هي النساء، الحب.
الجسد هو الحضور الحاضر الهايدغري، لأنه يعرف بشكل جيد كيف يستمتع ويتعرف على مكان الحسيات فيه.