هكذا وقفت أعظم ممثلة مسرح في باريس سارة برنارد مندهشة وهي تتأمل الملصق الذي رسمه لها الفنان الفونس موشا(1860-1939) لمسرحيتها الجديدة (غيسموندا) ، انبهرت وهي ترى هذا الفنان القادم تواً من جمهورية الجيك وهو يحمل كل هذا السحر والعجب، نظرت الممثلة العظيمة الى الملصق ثم الى الفنان الذي يبحث عن فرصة لعمله في باريس المليئة بفنانين عظام لايمكن التنافس معهم بسهولة، ثم ابتسمت له ابتسامة رضا وطلبت أن توقع معه عقداً لمدة أربع سنوات، يرسم خلالها ملصقات واعلانات مسرحياتها التي كانت تجذب جمهوراً واسعاً من كل أنحاء العالم. حدث ذلك سنة1894 حين خطا الرسام موشا أولى خطواته في عاصمة الفن. وها أنا الآن بعد اكثر من قرن من الزمان أدخل متحف موشا وسط العاصمة براغ وأتوقف أمام نفس الملصق الذي فتح له المجد من خلال تلك الممثلة الخالدة. أتأمل الملصق وأشعر كم هي لحظة خالدة بالنسبة لي أيضاً كفنان وباحث عن كل ماهو جميل ونادر في عالم الفن.
كانت زيارتي للمتحف الذي يديره الآن حفيده جون موشا، لأرى هذا العمل وأتمتع بالتأكيد بأعماله الأخرى، هنا وقفت وتوحدت مع شخصية سارة والعمل الفني معاً، ودخلت الى التفاصيل حيث تقف هي مثل ملكة قديمة بثوبها الطويل المزخرف الذي تتدلى حاشيته فوق قاعدة المرمر التي تقف عليها، تمسك بأحدى يديها غصناً طويلاً يتناسب مع وقفتها التي يزيدها هيبة تاج الزهور الذي يعتلي رأسها، وهي ترفع نظرها الى الأعلى بكبرياء وتضع يدها الأخرى على صدرها بأصابع مفتوحة وحركة مسرحية واضحة، لينسكب شعرها الأشقر الفاتح مثل شلال على كتفيها. وقد كُتب اسم المسرحية (غيسموندا) الى الأعلى بطريقة الفسيفساء، بينما يلتف اسمها هي، فوق رأسها مثل طوق لنافذة كنيسة قديمة. ما أعظم السيطرة على الخطوط السود في هذا العمل المذهل، سارة برنارد تلعب دورها في المسرحية والخطوط السود المرسومة بعناية تلعب الدور الأهم في الملصق البارع والمؤثر.
أتجول في المتحف وأشاهد أكثر من 100 عمل من أعمال موشا الخالدة التي نفَّذ أغلبها في باريس، أضافة الى التخطيطات الأولية وأعمال الطباعة وبعض مقتنياته الشخصية والكتب التي زينها برسومه، وهنا يتضح تأثيره على الآرت نوفو الذي لا يقل عن تأثير غاودي وكليمت. في احدى القاعات أعاد مسؤولو المتحف بناء وتصميم مرسمه الباريسي من جديد وبنفس مواصفاته الحقيقية مع أثاثه الاصلي، وقد علقت على جدرانه مجموعة كبيرة من صوره التي صورها في المرسم الأصلي. واختتم كل ذلك بفيلم وثائقي عن حياة موشا وأعماله، حيث اخترت كرسياً في القاعة المظلمة لأتابع بهدوء مشاهدة هذا الفيلم النادر.
لا أحد يعرف كيف يمكن لموشا أن يتحكم وبهذه الطريقة الاستثنائية سواء بالخطوط أو النساء الناعسات اللواتي تحيط بهن زخارف وزهور وأوراق أشجار ملفوفة بتناغم وديكورات غريبة التصميم. نساء يسبحن في فضاءات من اللذة والفرح، بشعور طويلة وإيماءات أصابع وقلائد نادرة وتيجان صممها بشكل خاص لتدخل في لوحاته وأطراف ثياب ترفرف وتتطاير في كل المشهد. هذا الفنان الساحر الذي ملأ أعماله بقصص ورموز وحكايات نساء بكامل الفتنة وقوة الشخصية والغواية أيضاً، قد استعار كل زخارفه وأشكاله من أغصان الأشجار والنباتات وفن الموزائيك والرسم على الزجاج المعشق بالرصاص. رسم كل ذلك بخطوط سوداء واضحة تحيط كل التفاصيل، ثم يأتي اللون ليثبّت كل شيء في مكانه مع التماعة رضا في عيون الموديلات، هذه الالتماعة التي انعكست بالتأكيد من روح الرسام وتفانيه في عمله المتقن حد السحر الممزوح بالبهجة. يبقى موشا ليس فقط واحداً من أعظم رسامي الملصقات، بل هو برأيي، الأعظم على مرّ التاريخ، هذا الفنان الذي جعل من الملصق عملاً فنياً متكاملاً ودفع الطباعة خطوات كبيرة الى الأمام لتكون فناً يوازي فن المتاحف.
بين الغواية والفتنة وسارة برنارد
[post-views]
نشر في: 18 مارس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...