TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > معمل سكائر غازي: تطبيقات العمارة "الصناعية"

معمل سكائر غازي: تطبيقات العمارة "الصناعية"

نشر في: 19 مارس, 2016: 12:01 ص

تختلف العمارة المبتدعة، باختلاف نوعيتها واغراضها وبخصوصية الموضوعة التي تخدمها. ومن ضمن تلك العمارات، ما يعرف "بالعمارة الصناعية"، التي لها خصائصها واشتراطاتها، ما يجعل منها جنساً ابداعياً خاصاً، يميزها عن مضامين العمارات الأخرى مثل "العمارة المدنية"

تختلف العمارة المبتدعة، باختلاف نوعيتها واغراضها وبخصوصية الموضوعة التي تخدمها. ومن ضمن تلك العمارات، ما يعرف "بالعمارة الصناعية"، التي لها خصائصها واشتراطاتها، ما يجعل منها جنساً ابداعياً خاصاً، يميزها عن مضامين العمارات الأخرى مثل "العمارة المدنية" و"العمارة الدينية" و"العمارة العسكرية" وغير ذلك. لقد ظهرت هذه العمارة اول ما ظهرت في المشهد المعماري، اثناء الثورة الصناعية، وتبلور حضورها بوضوح اعتباراً من منتصف القرن الثامن عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر، عندما اعترف الجميع بأهميتها وتفردها وتميزها عن النشاط المعماري المألوف. معلوم ان تكريس ذلك الحضور في الممارسة التصميمية اعتمد على وجود مادتين إنشائيتين جديدتين واستخدامهما بصورة واسعة في الانشاء والتعمير، وهما الحديد، والخرسانة المسلحة، بالإضافة الى الاستخدامات الواسعة للزجاج ايضاً.

احتوت "العمارة الصناعية" على سمات مميزة ومحددة، امست مرادفة لخصوصية ذلك النشاط التصميمي المعبر. ومن جملة تلك المميزات: إيلاء اهتمام زائد الى "الوظيفية"، ومراعاة العامل الاقتصادي في التصميم، والسعي لاستخدام الفضاءات المصممة على درجة عالية من الكفاءة والجدارة، بالإضافة الى مزايا آخرى. لقد افضى حضور هذا النوع من العمارات الى تأثيرات أساسية ونوعية على المنتج المعماري بشكل عام. واستعار النشاط المعماري المتنوع من العمارة الصناعية كثيرا من المزايا والخصائص، التي قدر لها ان تعجل في ظهور أساليب ومقاربات معمارية متنوعة. فلولا العمارة الصناعية، لم يكن ثمة انتشار، على سبيل المثال، للنظام الهيكلي الانشائي، بالصيغة التي نعرفها، والتي نجم عنها حضور مميز لما يعرف بمباني "ناطحات السحاب" العالية؛ هي التي اعتمد انشائها على التراكيب الهيكلية الشائعة الاستخدام في العمارة الصناعية. كما ان ظهور ما يعرف، بالتيار الوظيفي في العمارة، وما يوليه هذا الأسلوب من أهمية خاصة لمعنى "الوظيفة" معمارياً، والاقتصاد في مساحات الاحياز، وسهولة الحركة، وانسيابية الوصول الى الأهداف التصميمية، كلها من "بركات" العمارة الصناعية. لا يتعين ان ننسى، بان النجاحات المهمة الحاصلة في مجال التراكيب الانشائية، والتي عولت عليها كثيرا العمارة الصناعية، انتقلت تأثيراتها ونجاحاتها الى العمارة المدنية، مُغيرة الذائقة الفنية لإدراك كنه العمارة، واستبدال قيمها الجمالية. لنتذكر، على سبيل المثال، ما قدمه "فرنك لويد رايت" المعمار الأمريكي الأشهر، من رائعة تصميمية هي عمارة معمل جونسون في راسين /وسيكانسون، (1936-39)، والذي من خلالها غيّر مفهوم العمارة الصناعية والعمارة المدنية معاً! مضفياً الى أجواء قاعة العمل والإدارة في مبني الشركة حالة متمايزة، مشوبة بتأثير فني معبر، قلما نراه حاضراً في فراغات العمل الإداري والصناعي الحديثين، من خلال أسلوب الانشاء المتميز وطريقة الإضاءة فيه، التي استعارات مزاياها من خصوصية العمارة الصناعية!
ومناسبة هذا الحديث، عن العمارة الصناعية، هنا، هو اننا بصدد التذكير بقيمة أحد المباني البغدادية المهمة، ذي الطابع الصناعي، وهو معمل "سكائر غازي" (عبود وطبارة) الواقع في أحد ازقة "الكسرة"، والمتفرع من شارع الامام الأعظم، هو الذي نعتبره من الأمثلة الرائدة لنماذج منتج العمارة الصناعية، ومن هنا تتأتى أهميته العالية في سجل الذاكرة المعمارية المحلية، ناهيك عن قيمة مقاربته التصميمية، والاجتهاد الواضح في صياغة عناصره التكوينية. بدءا، نحن بصدد "عمارة" نوعية، عمارة، تختلف كثيراًعن كل ما كان معروفا عن العمارات سابقاً. صحيح، ثمة "ورش" صناعية مبنية، كانت مالوفة؛ وقد تكون منتشرة في النسيج البنائي لمدينة بغداد، لكننا لا نتحدث عن "محاولات" بنائية بدائية تنطوي على سذاجة تصميمية، تكمن في مسعى لتغيير الطابع المدني الأهلي للعمارة الى "حيز" انتاجي. نحن نتكلم، هنا، عن حضور معماري بهي، ومقتدر أضاف الكثير الى تنويعات البيئة المبنية المحلية. نحن، اذاً، بصدد رؤية نموذج "عمارة صناعية"، يدرك مصممها (وهو معمار محترف، من دون شك، لكننا لا نعرف اسمه، مع الأسف! أيكون معمارا فرنسيا او شاميا، لبنانيا على وجه التحديد، على غرار "لبنانية" احد مالكي المعمل إياه؟))، يدرك طبيعة ادواته التكوينية ويعرف جيدا خصائصها، اهلته، في النتيجة، لان يجترح احدى روائع عمارة الثلاثينات، العقد الذي يعود تاريخ المبنى اليه، كعقد واعد في تاريخ وطننا: العراق!
يعتمد " المعمار" في معالجاته التصميمية لمبناه على الرفع من موضوعة "الوظيفية" عالياً، ويجعل منها الموضوعة الاثيرة لديه المحددة والمبدعة للغة المبنى المعمارية. فحلول تنطيق الفراغات الإنتاجية والإدارية، تشكل، في النهاية، "الفورم" العام للمبنى. تلعب السطوح الآجرية الصلدة، التي ترى من الخارج بأشكال نوافذها المختلفة، وفتحاتها الدائرية منها في الأعلى والمربعة في الأسفل، الى اثراء جمالية الجدار/ الواجهة، وبالتالي جمالية المبنى ككل؛ بالإضافة الى استخدام المصمم لكتل فراغية يصطفيها بعناية ليزيد من تشكيلات العمارة الى خلقها. وتوحي "نحتية" كتل المبنى المميزة، وايقاع فتحات النوافذ الدائرية الواقعة في الواجهة الى مرجعية تصميمية معينة، تذكرنا بمقاربة "الباوهوس" الألمانية الشهيرة في العشرينات! اذ ان قيمة جمالية المبنى وقوتها تبقى في ذاتها، في الشكل الصارم "المتخم" بوظيفيته. وهي تتجلى بوضوح: مختزلة تماماً، ومتمايزة تماما، تفرض حضورها المعبر وسط البيئة المبنية التي تنهض فيها!
وعلى ذكر البيئة إياها، فان موقع المبنى "كمعمل"، يثير حالة من الدهشة والاستغراب. فالمجاورات له ابنية سكنية عادية، وغير بعيد عنه، يقع مبنى "البلاط الملكي"، بل هو في الحقيقة، مكانيا، مجاوراً له، ما يجعل من "الموقع" المختار مثار استفهام عن الدلالات المكانية، التي جعلت من مبنى "معمل" يحتل مثل هذا الموقع المتميز والهام. واذا تمثلنا ضجيج الاعداد "الغفيرة" من العمال والمستخدمين الذين يعملون فيه، فضلاً عن الحركة الدؤوب والمستمرة من سيارات النقل الحاملة مواد اولية للمعمل، او تلك المليئة بمنتجاته من علب سكائر وما نحوها، فإن موقع المعمل هذا، ما انفك يثير الفضول عن دواعي اختياره في هذا المكان تحديداً، وقبول السلطات المعنية وسماحها بتشييد مثل هذا النوع من الفعالية الصناعية في مكان سكني بحت، وبجوار اهم مبنى في المملكة العراقية، في وقته، وهو: "البلاط الملكي العامر"!
وفي العموم، يبقى مكان اصطفاء موقع المعمل، حالة مثيرة و"غامضة"، وهي، بالطبع، حالة سلبية، لكن كل ذلك ليس بمقدوره، بأي حال من الأحوال، ان يقلل من نوعية العمارة المجترحة، أو يسلب اهميتها الكبيرة في سجل الذاكرة المعمارية المحلية، كأول نموذج بنائي رائد في تطبيقات العمارة الصناعية وارهاصا لهذا النوع من المباني في تنويعات منتج العمارة العراقية الحداثية!

معمار وأكاديمي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram