6-7
أما سامي ميخائيل، الذي هو أشهر كتّابنا البغادّة الثلاثة، وكتبه تُرجمت إلى لغات عديدة، والذي هو – لحسن الحظ – الوحيد منهم الذي التقيت به، فهو أكثر واحد منهم يعنيني. لا أزال أتذكر الدهشة التي سيطرت عليّ عندما قرأت روايته فكتوريا. الدهشة هذه هي التي تسمح لي بالحديث عنها أكثر من حديثي عن الروايات «البغدادية» الأخرى له أو لزملائه.
صحيح أن بغداد حضرت في روايات عديدة لسامي ميخائيل، روايته الأخيرة عائدة مثلاً، التي صدرت عام 2010، والتي تتحدث عن يهودي ظل مصراً على البقاء في بغداد، بل يصبح مصوراً لصدام حسين، إلا أن فكتوريا تظل بالنسبة لي أقوى رواية كُتبت عن بغداد الفترة تلك، وحملتني، سواء شئت أم أبيت، وبضربة واحدة، إلى المدينة التي هربت منها بعد قرابة ثلاثين عاماً من هروب فكتوريا، لأتعرف على بغداد من جديد، أتجول مع فكتوريا في بدايات القرن العشرين عبر أزقة بغداد وحاراتها، عبر البتاوين والباب الشرقي، عبر شارع الرشيد والحيدرخانة، عبر سوق الشورجة والأورزدي باك، عبر أحياء الفضل وأبو سيفين، حيثما أرادت فكتوريا، أرسم معها خرائط جديدة لبغداد، غير تلك التي عرفتها وتركتها ورائي، أو غير تلك التي نسجتها وأنا طفل صيفاً وشتاء، وأنا أتخيل نجم الآخر الذي يرافق أباه في نزهاته عبر أزقة وشوارع بغداد، خرائط مختلفة حتى عن تلك التي ارتسمت تحت قدميّ وأنا أتجول في بغداد. في المرة هذه أرى بغداد عن طريق عيني امرأة.
منذ القدم، وقبل أن يخلّد لنا الأدب اليوناني نساءً مثل ميديا وألكترا وأنتيغون وهيلينا، قدّم لنا أجدادنا البابليون صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش، التي عبرت صورتها كل العصور. فكتوريا هي الأخرى امرأة ستعبر صورتها كل العصور، منذ أن تذكّرها سامي ميخائيل، ليس لأنها امرأة «عراقية» من نمط خاص، بل لأن سيرتها ضمّت من بين ما ضمّته سيرة مدينة بغداد، بكل ما حوته من بشر ومِلل ونِحل وقوميات. تلك هي قوتها. رواية فكتوريا أكثر من ملحمة عائلية، إنها ملحمة عالم كامل، عالم سيظل مجهولاً لكل أولئك الذين لم يحصلوا على شرف التعرف عليه حتى الآن. ظاهرياً يروي سامي ميخائيل قصة عائلات عراقية عاشت في حي يهودي في بغداد قبل الحرب العالمية الأولى، لكنه في العمق وعن طريق وضعه فكتوريا في محور القصة، المحور الذي يدور حوله الصراع بين العائلات هذه، روى سامي تاريخ العائلات العراقية التي عاشت جنباً إلى جنب، تاريخها البعيد والقريب بكل ما حمله من صعود وهبوط. وشكراً لفكتوريا في النهاية، سيكتشف القارئ نفسه تاريخه الشخصي الاجتماعي مثلما ستتشكل أمامه سيرة مدينة كاملة، بغداد في ذلك الوقت، ومعها سيرة بلاد كاملة.
«لم تتحرك قبل الآن بعيداً عن البيت بدون صحبة رجل»، بتلك الجملة يبدأ سامي ميخائيل روايته. فكتوريا ابنة رئيس العائلة «إشوري»، التي عاشت في زمن كان فيه من غير المسموح للنساء الخروج للشارع، السير أو التنزّه وحدهن، هي في المحصلة إحدى البطلات التراجيديات التي عن طريقها يُقدّم أطراف الصراع. وهي لا تفعل ذلك في حركتها خارج البيت، في الشارع وحسب، كما نراها على الصفحة الأولى من الرواية، بل حتى وهي تجلس في داخل البيت. الصورة التي يقدمها سامي ميخائيل عن الصحن الداخلي للبيوت البغدادية هي العقدة الأولى للسجادة التي سيبدأ بحياكتها لنا مع فكتوريا. الصحن الداخلي في البيوت البغدادية هو مسرح الحياة الذي تدور عليه حياة عائلة كثيرة الأفراد.
يتبع
ثلاثة كُتّاب.. ظلت بغداد كل حياتهم
[post-views]
نشر في: 22 مارس, 2016: 09:01 م