يواصل جورج الطرابيشي مشروعه النقدي والفكري , وقلة هم المفكرون الجادون العرب بسبب مثبطات ومعرقلات تواجه عملية البحث والتفكير , ذاتية وموضوعية تقف على رأسها السلطات القامعة للعقل والتفكير , فضلاً على المجتمع , الذي يكاد يكون أكثـر قسوة من السلطة , بسبب
يواصل جورج الطرابيشي مشروعه النقدي والفكري , وقلة هم المفكرون الجادون العرب بسبب مثبطات ومعرقلات تواجه عملية البحث والتفكير , ذاتية وموضوعية تقف على رأسها السلطات القامعة للعقل والتفكير , فضلاً على المجتمع , الذي يكاد يكون أكثـر قسوة من السلطة , بسبب تفشي روح الجهل والجهالة , وتراجع المجتمعات العربية , منذ صعود الراديكاليات إلى سدة الحكم بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين , وشيوع الرأي الواحد , الذي لا تجوز الكتابة خارج أطره المحددة
لذا لجأ العديد من مفكرينا إلى الهجرة و مغادرة الأوطان , بحثاً عن فسحة حرية , وهواء منشط للعقل والروح . ولقد كنت قريباً من كتابات الناقد والمفكر جورج الطرابيشي, منذ كتاباته الأولى , وفي الذاكرة كتابه النقدي الجميل ( شرق وغرب . رجولة وأنوثة ) الصادرة طبعته الأولى سنة 1982 , كذلك مشروعه النقدي لمدارسة ونقد فكر المفكر المغربي محمد عابد الجابري , ومناقشاته الثرة والثرية لفكر المفكر المصري حسن حنفي . ولقد اطلعت مؤخراً على كتابه الموسوم بـ ( هرطقات : عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية ) وهو من منشورات رابطة العقلانيين العرب , والصادرة طبعته الثالثة عن دار الساقي ببيروت سنة 2011 , واشتمل على مجموعة من الدراسات , والمقالات الفكرية , التي سبق وأن نشرها المفكر الطرابيشي , وعاد اليها بعد سنوات, ليقوم بعملية غربلة نقدية , فيسقط منها ما يسقط ويستبقي منها الذي يستبقيه, كي يدفعها إلى النشر في كتاب , قد يبقيها مدة أطول في ذاكرة القراء , التي تنسى للأسف سراعاً .
لقد اشترط الناقد جورج الطرابيشي على نفسه , كي يدفع بهذه الدراسات إلى النشر , ثانية في أهاب كتاب , ان تخرج في مضمونها عن الدروب المطروقة , التي كثر سالكوها وكثر الذين كتبوا فيها , بل كتابة مغايرة تكاد تقترب من الهرطقة , وقد شاع التفسير السلبي لمفردة (الهرطقة) , التي تأتي غالباً في الدراسات اللاهوتية المسيحية مرادفة للتجديف على العقيدة المسيحية , ومن هنا جاءت لفظة المهرطقون الفريسيون , ومنذ سنوات بعيدات قرأت كتاباً للباحث اللبناني الدكتور جورج حنا عنوانه ( هرطقات فريسية ) , لكنها في حقيقة معنى المفردة لغوياً وثقافياً تعني المغايرة , والتفكير خارج عقل القطيع والعوام , وهي أقرب إلى الإبداع والابتداع, في مواجهة الإتباع و الاستكانة وإقالة العقل .
لقد احتوى هذا الكتاب المهم على خمس عشرة دراسة فكرية ونقدية , توزعت على مناحٍ شتى في الفكر والسياسة والرواية والحركات الفكرية , وقد كنت أتمنى على المفكر الطرابيشي لو أشار إلى مكان النشر أولاً وتأريخه , لغرض التوثيق والتدقيق , وإذ درس حركة الترجمة في العصر العباسي الأول , التي قادها المأمون أيام صعود مجد المعتزلة , التي كان المأمون من معتنقيها والداعين اليها , والتي وأدها الخليفة المتوكل , الذي أقصى المعتزلة المنادين بالعقل, والذين كانت مقولتهم في خلق القرآن , التي لم يحسنوا الدفاع عنها , سبباً مهماً في قمعهم و الإجهاز عليهم .
لقد كانت دراسته الدلالية للرواية المهمة التي كتبها نجيب محفوظ في مرحلته المتأخرة , والصادرة علم 1983 والموسومة بـ ( رحلة ابن فطومة ) وعنوان الرواية يحيل القارئ الذكي المتدبر , إلى رحالة من أشهر الرحالين العرب إلا وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي , المشهور بـ ( ابن بطوطة ) , والرواية هذه ( رحلة ابن فطومة ) رواية فكرية فلسفية استبطانية , ترتبط بأكثر من وشيجة بروايته المثيرة للنقاش والجدل , الجدل الذي ثار متأخراً , التي نشرها نجيب محفوظ بدايةً منجمةً في جريدة ( الأهرام ) القاهرية منذ أواخر عام 1959 , وحتى بداية عام 1960 , عنيت بها روايته ( أولاد حارتنا ) حتى إذا صدرت في كتاب لاحقاً , ثار الجدل بشأنها فمنعت , فنشرتها دار الآداب اللبنانية , والمعروف لدى الدارسين والقراء النابهين , أن نجيب محفوظ روائي صاحب مشروع فكري وتنويري , وانه لا يقف عند لون من ألوان الكتابة الروائية إذ انتقل من الصيغة التأريخية في رواياته الأولى , ثم مر بالرومانسية و النفسية فضلاً على الواقعية , وما عرفت - كذلك - بالتأريخية , والصيغة النبوئية ، وهو الذي درس حياة المجتمع المصري , في الستينات , وكأنه تنبأ بالذي سيحصل . كارثة الخامس من حزيران / 1967 , فأصدر روايته ( ثرثرة فوق النيل ) للحديث عن هذا المجتمع المسطول , الذي يعيش معزولاً عن الحياة في العوامة , لتأتي مرحلته الانتقادية مستخدماً لغة مكثفة أشبه بالبرقية في روايتيه ( الحب تحت المطر ) و( الكرنك ).
وإذا كنت تستطيع إحالة شخوص رواية ( أولاد حارتنا ) الجبلاوي ورفاعة وعرفة وقاسم وجبل في هذه الرواية الكنائية إلى واقع الحياة والأشياء , فإن الدارس لرواية ( رحلة ابن فطومة) فضلاً على القارئ النابه , بإمكانه استكناه مرامي نجيب محفوظ , وهو يرحل بـ ( قنديل العنابي) بطل روايته هذه إلى دار المشرق التي هي كناية عن الطفولة البشرية متمثلة بقارة افريقيا ,ومن ثم توجهه نحو ( دار الحيرة ) التي هي قارة آسيا , وثالثة إلى دار ( الحلبة ) , دار الحرية بجدرانها الزرق , التي لو رجعنا إلى ألوان شعار اللجنة الأولمبية العالمية في عالم الرياضة , وشعارها ذي الحلقات الخمس المترابطة , فإن الحلقة الزرقاء ترمز للقارة الاوروبية , وهنا يختبر نجيب محفوظ ذكاء قارئه , فيجعل اللون الأزرق لدار الحلبة , دار الحرية التي هي ليست داراً تنتج حضارة دائرية , بل حضارة طردية مندفعة إلى أمام , وتجهل مبدأ التكرار , ولا تقول مع كارل ماركس ان التاريخ يعيد نفسه , بل ان فلسفة هذه القارة الزرقاء , قارة الحرية , في الحياة والتأريخ : ان التأريخ لا يعيد نفسه وإذ تعجبه في دار الحلبة , الحرية , فإنه لا يحب مفارقة واقع هذه الحضارة لمثلها ولا يعجبه الانفلات الجنسي , فيغادرها نحو ( دار الأمان ) ، أمان المعاش ودار المساواة والأمن , ولكن مجتمع العدالة الشاملة , هذا تزاوجه دولة الأخ الأكبر , دولة رقابية لا نظير لها في أي دار زارها ابن فطومة , فمنذ وطئتها قدماه صار له مرافق ملازم كظلِّه! فيغادر ابن فطومة نحو ( دار الغروب ) ، دار أرذل العمر , ومن ثم الموت , ولعله , نجيب محفوظ يعني الدولة العثمانية في أخريات عقودها , التي ظلت تحيا على هامش الحياة والتأريخ , وان مناصبة المولوية العداء , انما جاءت بأوامر من مصطفى كمال أتاتورك بعد ان أطاح بصيغة الخلافة وألغى الحرف العربي في الكتابة التركية , مستعيراً الحرف اللاتيني , بوصف المولوية جماعة من المتعطلين الكسالى والمعطلين للحياة .
ويدرس المفكر جورج الطرابيشي رواية ( أصوات) للروائي المصري سليمان فياض في ضمن روايات لقاء الشرق بالغرب , وإذا كانت أغلب رواياتنا في هذا المجال , تحاول الحط من شأن الآخر , وإعلاء الذات , فإن الباحثة الدكتورة ماجدة ( محمد ) حمود الأستاذة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق والمولودة فيها سنة 1954 قد درست العلاقة من وجهها الآخر , في كتابها النقدي المهم الموسوم بـ ( إشكالية الأنا والآخر - نماذج روائية عربية )... درست العلاقة مع الآخر لا بوجهها السلبي , الذي درج الروائيون العرب على البوح به , منذ ( عصفور من الشرق ) لتوفيق الحكيم , بل قدمتها بوجهها الايجابي , وليست مع الغربي فقط , بل مع الآخر الآسيوي , وتحديداً الخادمة السريلانكية ( كوماري ) في رواية ( بعيداً إلى هنا ) للروائي الكويتي عراقي الأصل إسماعيل فهد إسماعيل , فضلاً على اليهودي كما في رواية (اليهودي الحالي) للروائي اليمني علي المقري , كذلك رواية ( حفلة تنكرية للموتى) للروائية السورية المقيمة في باريس غادة السمان, مصورة حياة الغربة التي تعانيها بطلة روايتها ( ماريا), حين تعقد آصرة وحواراً مع / وبين الأنا والآخر الغربي , الفرنسي تحديداً , فترتب زيارة للفرنسية ( ماري روز ) إلى لبنان كاسرة بذلك نمطية النظرة إلى العربي.
فإن الطرابيشي درس مفهوم الآخر ليكون تكأة لنقد الذات من خلال ( سيمون ) الفرنسية زوجة المغترب المصري حامد البحيري , الذي أرسل زوجته لزيارة القرية التي ولد فيها البحيري هذا وعاش , وما واجهته زوجته من مواقف سلبية ولاسيما من النساء اللواتي كن يغبطنها جمالها وذكاءها وثقافتها , فيأتمرن بها ويدهمنها في حجرتها , ويبطحنها على سجادة الأرض , وتخدرها ( نفيسة ) القابلة بالبنج , ثم تباشر ( تطهيرها ) بالمقص من الشعر الذي بين الفخذين, وبالموس من ذلك ( الشيء ) بين شعر الفخذين , والفجيعة التي تدوي كالصمت بين الضجيج أن (سيمون ) لم تفق من البنج : أتراها ماتت من النزف أم من هول اللحظة ؟أم ماتت بكل بساطة لأنها فقدت ذلك الشيء الذي بدا وكأنه يعطيها روحها وحيويتها وهو ما يحدد ماهيتها كـ(أخرى)؟- تراجع ص 72.ص173 .
لقد وقف الدارسون عند مصطلح ( العلمانية ) هل يلفظ بفتح العين بوصفها مأخوذة من العالم أي الدنيا , أم كسرها كونها مصدراً لكلمة ( العِلمْ ) لكن الناقد المفكر جورج الطرابيشي في دراسته المهمة - وكل ما جاء في الكتاب هذا مهم وجدير بالقراءة - والموسومة بـ (العلمانية: مسألة سياسية لا دينية ) يقدم لنا فصلاً يعود إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي , يؤكد علمانية اللفظة , وانها جائية من العالَم , وضعه الأسقف واللاهوتي القبطي (سايروس بن المقفع ) المولود سنة 915 في كتابه ( مصباح العقل ) الذي جاء للحديث عن الخلاف بين الطوائف المسيحية بشأن زواج الكاهن , وان ذكر هذه الصيغة من غير شرح , ليدل على شيوع اللفظ , وانه مفهوم لدى الناس عامة , وبودي ان انقل جزءاً من النص الطويل الذي ذكره المفكر الطرابيشي وورد على الصفحة 216 من الكتاب .
قال الأسقف سايروس ( وقد رأى المتقدمون بعد ذلك رأياً في الأساقفة . أما المصريون فرأوا ان يكون الأسقف , بالإسكندرية خاصة , بتولاً لم يتزوج في حال عَلمانيته , واما النسطورية و السريان فرأوا الا يكون الأسقف البتة ممن تزوج قبل أسقفيته...).
لغة الناقد المفكر جورج الطرابيشي راقية جداً , تثري القارئ بتصريفات رائعة للكلمة العربية , ولكني وجدت هنة لغوية هينة , انه لايورد معنى لفظة ( النحت ) على الوجه الصحيح , إذ يقول, وهو بصدد الحديث عن لفظة ( العَلمانية ) ( وهذا معناه ان تاريخ نحت الكلمة يعود إلى ابعد من القرن الرابع الهجري , وربما إلى القرن الثاني الهجري الذي شهد تعريب الكنائس المسيحية . هذا ان لم يعد إلى تاريخ أبعد , نظراً إلى ثبوت وجود مسيحية عربية في نجران في اليمن منذ القرن الخامس الميلادي على الأقل ) ص217.
اقول ان حد النحت كما ورد في المعاجم , ولاسيما في ( المعجم الوسيط ) الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة , هو أخذ الكلمة وتركيبها من كلمتين أو كلمات يقال : بَسْمَلَ , إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم و حوقل أو حولق , إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله ومنها العبدلة أو العبادلة أي الذين يحملون اسم ( عبد الله ) اما لفظة العلمانية التي أوردها المفكر جورج الطرابيشي فهي تصريف للمصدر ( العَلم ) الذي هو العالم وليس نحتاً للكلمة.