TOP

جريدة المدى > عام > رأي في القصيدة الجاهلية

رأي في القصيدة الجاهلية

نشر في: 27 مارس, 2016: 12:01 ص

قرأنا القصيدة الجاهلية طلبةً في المدارس وقرأناها أدباء معنيين وقرأناها شعراء باحثين عن فنون الشكل والمعنى وما وراء الإشارات. لم يكن هنالك كبير اهتمام بتقنية القصيدة العربية الجاهلية فليس سوى أنها قصيدة متعددة الأغراض تبدأ بالوقوف على الأطلال وتنتهي ب

قرأنا القصيدة الجاهلية طلبةً في المدارس وقرأناها أدباء معنيين وقرأناها شعراء باحثين عن فنون الشكل والمعنى وما وراء الإشارات. لم يكن هنالك كبير اهتمام بتقنية القصيدة العربية الجاهلية فليس سوى أنها قصيدة متعددة الأغراض تبدأ بالوقوف على الأطلال وتنتهي بالممدوح.

الوسط بين بداية القصيدة وخاتمتها هو المهم في رأينا وهو ما ينبغي تفحصه ودراسته. هناك نجد روح الشاعر وهمومه وانتباهاته الخاصة وموقفه من الحياة والطبيعة والأشياء.
لكننا للأسف لم نعن كثيراً بهذا المهم الذي يسمونه حشو القصيدة! وحتى دارسو الشعر الجاهلي والمتخصصون الأفاضل لم يهمهم من ذلك كثيراً. هم شغلوا ببلاغة البيت وبجودة التعبير وحسن اللفظ ومعايير المفضليات عندهم.
نحن في عصرنا هذا، عصر الفردانية والروح الخاص والبحث عن الذات، صار لنا اهتمام أكثر بروح الشاعر، بذاته، بمتاعبه ورغائبه وانكساراته الوجودية، فبدأنا نعيد قراءة مقدمات القصائد ورأينا في الوقوف على الاطلال افكاراً أخرى غير التي ذكرتها الكتب، فهي ما عادت تقليداً حسب، وإن كانت تقليداً، فهي حاجة أصلاً، ثم صرنا نراها وقفة تأملية فاجعة للمصير ولما قد يواجه الشاعر في الارتحال وقد ودّع حياة زائلة كانت تزهو بجمال وتجري فيها حياة وقصص ووجوه.. هو يرى هذا الفلم الحزين أو هذه البانوراما المؤسفة وهو سيمضي على ناقته ليقطع الصحراء إلى مبتغى غير متأكد من بلوغه ولا يدري بمخاطره وليس على يقين من جدواه. هذه هي محنة الشاعر الجاهلي وقد خسر حباً وحياة وواجه الصحراء.
هنا الإنسانية التي لم يستوعب أحد أحزانها ونحن نقرأ الشعر أو ندرسه. وعلى العكس أحياناً ندينه على استعطافه أو تكسبه ومن غير أن نجد له عذراً بأنه منقطع لا يملك مالاً ولا زرعاً ولا عملاً يقيته وهو ليس مثلنا نعمل في مكتب أو نتكسب في الصحافة.
نعم، اشتغل بعض جليل من اساتذتنا بمسألة وحدة الموضوع في القصيدة الجاهلية، مثل استاذنا طه حسين الذي يرى فيها وحدة ضائعة بسبب من تخلخل روايات الرواة (حديث الأربعاء). وبعض لا يرى ذلك ويعزو افتقاد الوحدة إلى عدم الاستقرار وتحولات البيئة والتنقل من ظرف وحال إلى ظرف آخر وحال، لكنهم يجدون وحدة فكر ووحدة شخصية (للشاعر العربي) ووحدة عالم، ولكن هذا اقرب للتجريد منه للتحديد.
ولأني ابن زمني وأعهد نفسي كاتب شعر ودراسة، فسيكون لي في المسألة رأي أخر، غير ما عني به اساتذتنا والمتخصصون بالقصيدة الجاهلية، أقول :
لم تكن في جزيرة العرب قصائد محددة الأبيات. توجد قصائد قصار بأبيات لا يحكمها نظام ولا يلزمها شكل ثابت، مثل السوناتة 14 بيتاً بنظام خاص للقوافي وبمقاطع معروفة، كما أن الشاعر الجاهلي لا يمتلك مكتبة أو غرفة درس Study Room يكتب فيها مقطوعاته أو قصائده. هو مرتحل متنقل، شفاهي في الغالب ولا يملك إلا ناقته إن كان غير موسر وفرسه أو حصانه إن كان في حال أفضل ، الحصان أو الفرس دليل نعمة خلاف الناقة أو الجمل، فشأن هذين أقل.
المهم أنه "يسرد" مقطوعات شعرية متتالية، تبدأ بالأطلال أو الغزل ثم يوصف حال النعمة والزرع إن جاد الغيث واخضرت بواديهم وعاد الفرح بالحياة، والموسم الآهل المستريح. هكذا تتوالى مقطوعة بعد أخرى عن ارتحال الأحبة وصعود الحبيبة أو الحسان الخرد للهوادج ونظرات التوديع. وتلي هذه مقطوعة عن وصف الناقة في البيداء أو وصف الصحراء وكتابتها وتعب الراحلة، أو ما يواجهه من سيل أو عاصف محصب أو مطر.
وهكذا هي قصيدته ، سلسلة مقطوعات ينتظمها وزن شعري واحد وقافية واحدة، هما من صفات، او من امتياز، القصيدة العربية.
وفي متابعة لمجموعة قصائد جاهلية، منها المعلقات، استطعت أن أرصد وهن بعض أبيات الانتقال من حال إلى حال، وبعض الشعراء برع في حسن انتقاله. مع ذلك، وفي الحالتين، هي مقطوعات بموضوعات واضح اختلاف مضمونها. الشاعر يمهد للانتقال في بيت حيناً يكون بسيطاً وحينا مصطنعا وحيناً يمكن أن نستطرفه ونرضاه.
وعموما الانتقال إلى الممدوح هو إما بشكوى من طول الطريق وأنه استسهل ذلك أو ارتضاه مشوقاً للوصول إلى ممدوحه، من دون أن ينسى تعب الناقة وتساؤلاتها الصامتة إلى أين هي ماضية ومرة هي تعلم بالخير الذي ينتظرها ويتنظر راكبها! المهم أنهما سائران نحو الجواد شبيه البحر بجوده وراحته التي تنتظر من تعطي "حتى كأنك تعطيه الذي أنت سائله.."
إذاً، وكما أشرت من قبل، يهمني من القصيدة حشوها، لا افتتاحيتها التقليدية ولا خاتمتها الفرضية، وقد تخرج بعض القصائد عن أغراضها إذ يستغرق الشاعر في مسألة أو أنها لم تصلنا كاملة، بمعنى آخر لم تصلنا المقطوعة الختامية .. أنا معني أكثر بالأفكار  والخواطر والانتباهات الشعرية التي يقوم بها جسد القصيدة.
وهذا غالباً عالم شخصي أو هو عالم الشاعر كأن يكون حال قبيلته، سلماً أو حرباً، أو تفكيره بعياله أو بوحشته أو خوفه أو رأيه في خصمه أو دنياه، وحتى الأبيات التي يصف فيها ما يرى أو يواجه من سحاب ومطر، أو تلك الرياح الموسمية التي تمر في الجزيرة ولا تمطر، ومنها تهديد الوحش وعسر الوصول.
هو هذا عالم القصيدة العربية التي أتمنى أن يكون موضع الدرس الأطول والأكثر تدقيقاً وتحليلاً وكشفاً. هناك الشاعر العربي الحقيقي وهناك بوحه ومِحَنُه وآماله أحياناً. نعم هو موجود في الاستهلال الطللي وفي الخاتمة الغرضية ولكن التقليد لا يجعله صافي الذات ولا يكون المبدع فيه مع نفسه وحياته بعيداً عن التقليدي أو الصنعة. هو إن لم يكن مشوباً في كل المقدمة الطللية، ففي بعضها وإن لم يكن في كل الخاتمة، ففي بعض منها.
بقي أن أقول، للتأكيد ، أن بعض القصائد العربية الجاهلية والأموية وحتى بعضاً من القصائد العباسية، واضحة التقسيم إلى مقطوعات ولم يبق إلا فصلها! ولو كتبت هذه بحوراً أو أوزان، مختلفة واختلفت قوافيها، لما ظل بعد شك في كل قصيدة جاهلية أنها عدة قصائد، لكن هنا، وكما وردت، قد لمَّ شملها الشاعر أو الراوي وأطَّرها وحجّمها في وحدة نظام خاص يمتاز بوزن واحد وروي واحد أو قافية.
السؤال الآن : لم لا يكون هذا امتيازاً ؟ وما الضير في أن تكون للشاعر العربي طريقته المتميزة ؟ وما العيب في أن تتكون من مجموعة قصائد صغار أو عدة مقطوعات ضمن إطار موسيقى واحد؟ أو ليس هذا عملا سمفونيا يدعو إلى الفخر؟ كم من جمال لا يُذْكَر في شعرنا العربي؟ بقي ان اقول لكم اني استقيت تقنيّة مطوّلتي "سمفونية المطر" من بناء القصيدة الجاهلية!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram