قلت لك تعال: فاليوم يومٌ من ايام الربيع، وقد حسَّنت الريحُ ما حولنا، فأزهر مما زرعنا ورداً وشجراً ما أزهر، وأثمر من الفاكهة والنخل بيننا ما أثمر . تعال نجلس معا ونتذاكر، انا وأنت، لا غيرنا، أيها الخصيبيّ الحبيب. أقول: نتذاكر، هكذا، كما قالها شيخنا الحسنُ البصري لخصومه "إنما خلونا ببعض أصحابنا نتذاكر" يوم أتهمه اهلُ السلف بالتدليس، وما كان الرجل كذلك، والله. نتذاكر. فأقول لك اتذكر كيف خبأنا قناني الخمر تحت الأجاصة العالية، وكيف كاد ذيل دشداشة أبيك يمسها، ولوا عناية السعف والظلال لكانت في قبضته، ولكنّا حُرمنا من سكرة الربيع الأولى؟ فتضحك من ذلك، تقهقه، لا عليك، سأذكّرك بما تقلب بيننا من الأيام والليالي.
وقبل أن أقصَّ عليك ما أريد الحديث به معك، كنتَ حدثتني مبتهجاًً بحديث كنتُ سمعتهُ منك قبل نحو من أربعين سنة، عن ساعة جلوسك في كازينو المربد، القريبة من كازينو 14 تموز، على شط العرب، يوم جلستما أنت وزوجتك، بعد يومين من زواجكما، وقد اتخذتما مجلسكما قبالة الماء، في المقهى المزدحم بالعشاق والمتزوجين تواً. ورحت تشرح لي كيف كنت سعيداً آنذاك، ثم أنك طلبتَ منها أن ترمي العباءة خلف ظهرها، لا، لم يكُ الحجابُ ليُكتشف بعد، كانت العباءة حسب، هي من يحتشم الجسد البضُّ تحته، كنتَ تريد أن تقول لي بانك كنت تفاخر ببياض ذراعيها بين عشرات النساء اللواتي امتلأت بهن مقاعد الكازينو، تباهل بها، لكنك استحييت، أنا قرأتُ ذلك في فرح عينيك، فهمته من إشارات يدك وهي تشير الى الجمال والقسوة معاً، ثم أنك رحت تحدثني عن النادلة الجميلة التي وقفتْ تصبُّ لك كأس البيرة، وتقدم لزوجتك قدح الليمون بالثلج والنعناع.
يا الله، لقد نسيتُ ما أردتُ أنْ أحدثك به، كانت قصة جلوسكما في الكازينو اطول من هذا بكثير، لعلك حكاية نسيت سائق التاكسي الذي أقلكما الى البيت، ذاك الذي راح يشرح لكما لماذا غنّت شادية أغنيتها( سوق على مهلك سوق) وكيف أنه راح يحدثكما عن حبيبته التي أجبرت على الهجرة مع أسرتها، لأنهم من التبعية الإيرانية، وكيف انها كانت تعدُهُ بحب مجنون أبدي، وقد أراك اسمها المحفور على ذراعه. كانت الحكاية طويلة، لعلك دلّست في بعض مفاصلها، فالبصريُّ يدلسُ في أحاديث الفتنة والجمال احيانا. لا عليك، فالوقت يتسع لأكثر من حكاية، والربيع ما زال في أوله.
أنت تعرفُ أني أحببتُ إحدى بنات شارع الليل البصري (بشار) البنت التي من كركوك، التركمانية الهيفاء، ذات الطول الفارع، ولطالما سمعتك تطلب مني أن أحدثك بحديثها، بحديث سهدي وولهي وغرامي بها، لعل انهمار الدموع من عيني غزيرة يحثك على القرب مني، في كل حديث عنها، لكنني، لا أذكر انك عنفتني يوما على حبّها، هي ابنة سبيل، نعم، كما يقول البصريون عن بنات الليل، اللواتي كنَّ يرافقننا إلى أسرتنا، نحن الذين تأخرنا في الزواج. أأقول لك بأنني كنت مجنونها، الذليل بين يديها، المهجور في حضنها، الميت بين يديها، هل يكفي ذلك لتبيان ما كنت فيه آنذاك، لكنْ، اما وقد بلغت الورقة خاتمتها، سأكتفي بقولي:
ذات ليلة، وقد جمعني وإياها وجدٌ لم أعهده بروحي من قبل، مع طول معاشرتي لها. هي، ليلة تختلف عن ليالي أبي الخصيب كلها، كان الفصل ما بعد منتصف آذار، حيث يبق عن تفتق براعم الخوخ والنارنج سوى اليوم واليومين. كنت منتشياً، أترقب هبوط جسدها ساعة إثر أخرى. ثملتُ ليلتها، كأنني لم أثمل مع فائزة من قبل، هي تُدني الكأس من شفتي فأرشف ما انا بشوقه وتوقه، وأنا اميل عليها فأرتجف دمعا وحباً وولها، هي تلقي بما بين ذراعيها من كؤوس وينابيع وانا أبحث عن كاسين لا أكثر، ما دلني عليها سوى النور الذي كان ينبعث عنيفاً. كأسان من حليب ورز يطلعان من بين ذراعيها، لا أكثر، لكنني، وفي الظلمة، وما إدلهم حولي، أفتقد هذا ساعة أجد ذاك، أرتطم بموج ابيض فيطيح بي موج لا أقدر على مقارعته، اهرب محروراً من ظلمة شعرها فأجدني مقروراً، أرتجف تحت كانون إبطها ..وهكذا، راح الليل ينشطر وينقضي، غصون كرم تدلت، ورق توت لا يستر من عري أحاط بنا، سعف وحيطان طين وقصب تعامدت علينا، نحن في غابة النور والظلام، غابة لا نهاية لأطرافها. تعبت كلاب وقطط جسدينا، ولما انتهينا الى كوخ الطين، وقد هجعت وعول النبيذ من حولنا، سكرى، تعبانة، وأنتصف في السماء قمرٌ كاذب جبان، صمتت الغابة بنا، هجعت، ومثل طويةٍ من زعفران وآس أتخذتُ ذراعها وسادةً ونمتُ.
ذراعُها طويةٌ من آس وزعفران
[post-views]
نشر في: 26 مارس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...