TOP

جريدة المدى > عام > استطلاع ثقافي:عن ثقافة الطفل.. خريف "مجلتي والمزمار" .. وكرم "البلاش"

استطلاع ثقافي:عن ثقافة الطفل.. خريف "مجلتي والمزمار" .. وكرم "البلاش"

نشر في: 28 مارس, 2016: 12:01 ص

مجلاتٌ مغبرّة لم تنل الترتيب اللازم، موضوعة على لوحٍ خشبي بمساحة المتر المربع عند بائع الصحف، تبرز من بينها مجلة أطفال على غلافها رسمةَ طفلة محجبة تحملُ لوحاً كُتب عليه: "الكرم عند العرب" . يبدو أن نظراتي المُتأملة أثارت فضول بائع الصحف الذي قال حين

مجلاتٌ مغبرّة لم تنل الترتيب اللازم، موضوعة على لوحٍ خشبي بمساحة المتر المربع عند بائع الصحف، تبرز من بينها مجلة أطفال على غلافها رسمةَ طفلة محجبة تحملُ لوحاً كُتب عليه: "الكرم عند العرب" . يبدو أن نظراتي المُتأملة أثارت فضول بائع الصحف الذي قال حين وجدني أهم بالانتقال إلى حمالة الصحف المعدنية، إنه لم يبع ولو نسخة واحدة من هذه المجلة. نفرت من طريقته الغريبة في الترويج، ولكي ينال شفقتي أكثـر قال بصوت كسير إن هذه المجلة توزع بالمجان، وأضاف بملامح ثعلبية "وأنا ابيعها بربع دينار".

محمد الذي لم يكمل العاشرة من عمره ، تأسره اللوحة بألوانها وتشحنه بمشاعر غامضة إلا أنها حتما تمنحه الانبساط، يذكر أنه يبحث كثيراً عن مجلات، تساعده على تعلم الرسم، كما أنه شغوف بمطالعة القصص التي فيها مغامرات وسحر. ويضيف محمد أنه يمتلك نسخاً قديمة من مجلتي والمزمار التي كانت لوالدته في صغرها، وهو يطالعها بشكل مستمر، مُستفيداً من الرسومات الجميلة التي يحاول تقليدها أحياناً.
ويتابع محمد "لا توجد في مدرستي مثل هذه المجلات، وحين آخذ هذه المجلة معي يُفاجأ بها زملائي".
عبير ، وهي معلمة في الخامسة والثلاثين من عمرها تحدثت عن ايام "مجلتي" و "المزمار" وقالت إنها كانت تشتري هاتين المجلتين اسبوعيا لأن فيهما قصصاً مشوقة جدا ومعلومات تربوية غاية في الدقة وتصل إلى عقلية الطفل بسهولة.
عبير كانت ،بحسب قولها، تتخطى اصول اللعب مع الاطفال وإظهار الأمومة الفائقة بأن تقوم بدور تثقيفي بارز من خلال مجلة عريقة كـ "مجلتي" التي كانت تطبع منها الملايين سنويا في فترة الثمانينات من القرن الماضي.
الأجيال الأكثر ثقافة هم أؤلئك الذين تمتعوا بثقافة أدبية واسعة خلال طفولتهم حيث يترسخ في عقولهم الكثير من العادات والسلوكيات الصحيحة، التي هي بالتأكيد تخلق جيلاً ذا أُفقٍ واسع، تلك السلوكيات التي مارسوها في صغرهم نُحتت في طباعهم عند الكِبر. قول عبير هذا كرره بصيغة أخرى العديد من المتخصصين في مجال ثقافة الأطفال من بينهم رسام وكاتب أدب الطفل الدكتور ضياء محمد علي الحجار الذي قال في نوبة حنين للماضي وتأسفٍ على الحاضر: "المطبوعات التي كانت تصدر في ذلك الوقت لها تأثير كبير على سلوك الطفل فيتخذها وسيلةً ورفيقاً له خلال حياته ويتعامل بها في يومياته مُنتهجاً إياها كسلوك حميد وأيضا كمحفز خلّاق لكل المواهب الغافية في العمق الطفولي".
يستذكر الحجار أحباره المتناثرة على ورق تلك المجلات، وألوانه التي حملت جُزءاً من روحه فكان هو وكثيرون ممن عملوا في مجاله لا يتعاملون مع هذه الثقافة كوسيلة لكسب عيشهم فحسب، بل باعتبارها جزءاً منهم ومن تكوينهم الثقافي ومشاعرهم.
يقول الحجار: "جيلٌ من الأساتذة والضباط والسفراء والأطباء والمهندسين والمبدعين في مجال الثقافة والموسيقى والفنون كل هؤلاء كانت "مجلتي والمزمار" هي خطوتهم الأولى نحو الثقافة حيث كانوا يتداولونها ويكتسبون المعلومة والحكاية والفكرة. كانت ذاكرة الطفل آنذاك عاملة ومتقدة  تتخيل وتُفكر وتنتج  لتُفجر ثورة فكرية لجيلٍ آخر".
"كل ما هو جميل يطوله الخريف فتسقط أوراقه" هذه جملة مدير تحرير مجلتي والمزمار عبد الستار البيضاني الذي أكد أن هاتين المجلتين كانتا تصدران في ثمانينات القرن الماضي بما يقارب الـ 12 مليون نسخة في العام إضافة إلى كُتب الأطفال الثقافية والتعليمية والتي كان يصدر منها ما يقارب المئة كتاب في العام الواحد. إحصائيات البيضاني أكدتها رئيسة قسم النشر في دار ثقافة الأطفال رمزية محمد والتي أشعرتني بأنها ممتزجة بهذا المكان وهذه الأوراق التي ترتسم على أغلفتها صور أطفال وتُكتب على صفحاتها حكايات تفوح بالبراءة.
سألت بائع الصحف الذي يعرض مجلة الطفلة المحجبة إن كانت هناك اصدارات لدار ثقافة الاطفال فرد على الفور: "ياريت". ثم عاد ليقول بان الأمر الآن وإن حصل فهو يبعث على الحزن، أنا بالطبع فكرت بكلامه ووجدته يبعث على الحزن بالفعل فما معنى ان نتراجع بينما المفروض أن نكون الآن قد دخلنا في نصف قرن من الخبرة ، لكن الواقع يُخالف أحلامنا حيث تراجعت إصدارات الدار إلى 3000 نسخة في العام بأكمله بعد أن كانت تصل إلى 12 مليون نسخة وثلاثة كتب في العام الواحد.
في أروقة هذه الدار التي يحتضنها دفء اسمها ويُغطيها جليدُ الإهمال تجولت على أمل أن أشاهد الرسامين الذين يعملون على أجهزة حديثة مُستخدمين تقنيات جديدة، إلا أن لا وجود لهكذا صورة في الواقع. قابلتني ملامح رمزية محمد التي تأسفت لأيام مضت كانت الدار فيها تُغطي حاجة اطفال العراق وتُصدّر جزءاً منها إلى الدول العربية ودول الخليج أيضاً.
تذكرت أحاديث صديقة مُسنّة -السيدة هدى- وهي موظفة سابقة في وزارة التخطيط، كانت تحب القرن الماضي وتصفه وكأنه عالم كوني خيالي، راوية كيف أنها في مرة زارت بيروت مع وفد من وزارة التخطيط وفي تجوالها رأت صاحب مكتبة يرفع لافتة مكتوب عليها بأحرف بارزة : "لدينا كتب اطفال عراقية" وحين دفعها فضولها الاعتزازي الى الاستفسار مِن صاحب المكتبة عن الأمر، عرض عليها كتب اطفال مستعملة من اصدار الوزارة وهو في غبطة عالية وقال: "هذه كنوز". لا أعتقد أن السيدة هدى قد بالغت في وصفها ذلك الزمن ولكن قطعا أن كتب الاطفال وقتها كانت تتحدث عن كرم العرب بطريقة مختلفة.
وبينما كانت رمزية محمد تعرض أمامي نتاجات الدار من مجلات وكتب وأقراص ليزرية قالت إن أغلب العاملين هنا يمتزجون بهذا المكان وهم مُحبين لهذا العمل وهذا ما يُصبرهم على البقاء فيه ، إلا أن تعيين أكثر من 600 موظف على الملاك في مبنى لا يستوعب سوى 60 موظفاً يُعد سبباً حتميا لتراجع ثقافة الطفل.
وتقول محمد إن الوزارة بادرت بتعيين عدد كبير من الموظفين غير المختصين على ملاك الدائرة وهؤلاء لا ترى لهم أي أثر إلا في أيام توزيع الرواتب لتجدهم يقفون بالطوابير.
الفساد المالي والإداري بات كالأرضة تأكل كل ما تجدهُ في طريقها. تقول رمزية محمد أن لدار الشؤون الثقافية دورا في ذلك من خلال فرض رسوم مبالغ بها على المطبوعات وذلك لارتباط الدار بعقود مفروضة عليها للطباعة لدى الشؤون الثقافية. وهذا ما دفع مديرة النشر لإيجاد وسيلة تمكنها من طباعة هذه المطبوعات خارج العراق بكلفة أقل ونوعية أكثر جودة ".
تتابع رمزية محمد: "أسباب التراجع لا تُعد ولا تحصى ، فعلاوةً على ما ذُكر سابقاً هنالك غياب كبير في الكوادر الشابة من المبدعين في هذا المجال، وإن توفر شخص واحد من كل خمسة اشخاص سوف يُحبَط بسبب غياب الأدوات وأجهزة الحاسبات وبرامج التصميم والرسم الحديثة والجيدة، كما سيُحبطه عدم اعتراف الجهات المسؤولة بأهمية ثقافة الطفل".
بعد عبد الرزاق المطلبي وجعفر صادق محمد وشفيق مهدي وصلاح محمد علي ، ورحيم ياسر وغيرهم كثيرون لم تظهر أسماء بارزة في الجيل الجديد متخصصة بهذا المجال ، وما أن تندثر هذه الأسماء ستكون ثقافة الطفل معرضة للاندثار فهل يا ترى سيُترك هذا الجانب المهم آيلاً للسقوط والتراجع والغياب حتى ينقرض، أم أن هنالك أيدٍ ستتمكن من انتشال أحد هذه الأجيال المستمرة بالتعاقب عسى أن ينبثق منهم جيل حي بإمكانه تغيير الواقع المدمر؟.
اشفقت على بائع الصحف وأخذت مجلة الطفلة المحجبة ، وحين هممت بنقده ثمنها ارتفع عنده الكرم العربي وقال لي: لا استاذة هذه المجلة توزع "ببلاش".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram