TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > خلاف الرأي وما يليه

خلاف الرأي وما يليه

نشر في: 27 مارس, 2016: 09:01 م

عادة ما أكون على شيء من حماس حين أنتصرُ لفكرة، أو حين أعارضُ أخرى. وهذا شأني حين أحب قصيدةً، أو عملاً موسيقياً، أو لوحة أو فيلماً..الخ. وشأني حين أجد ما يؤخذ عليها. وأعرف أن حماسي ليس طبيعةً خالصةً وحدها، بل هو توجه عقلي أيضاً. نحن نحتاج إلى الحماس لا لكسب الآخر، بل لتحقيق جدوى في التواصل. والعمل المخلص الصادق عادة ما يتصف بحرارة الحماس رغبة أن يصل إلى الآخر بيسر. فالحماس هنا صنو الوضوح. والفكرة المتوقدة عادة ما تكون حارة وواضحة.
ولكني في رفض نص ومعارضته إنما تنصرف حماستي لهذا الرفض والمعارضة للنص وحده، ولا تتجاوزه إلى صاحب النص كإنسان ينطوي على حرمة عالية. المبدعون في كل فن يتميزون عادة بتفاوت مستويات أعمالهم، فكم أحببتُ قصيدةً للسياب حدّ الوله، وأنكرت عليه أخرى حدّ الاستهجان. وكم أكبرتُ قدراتِ المخرج السويدي بيرغمان في فيلم، واستثقلتها في آخر. على أني في أحيان أخرى أنكر نتاج وأفكار وتوجه كاتب أو فنان برمّته. ولا يفتقد إنكاري هذا إلى الحماس. وهذا الحماس للانكار الجذري مشروعٌ لأنه يعتمد بدوره بصيرةً متجذّرةً هي الأخرى في داخلي. فأنا، على سبيل المثال وحده، قد أجد "الأغراض الشعرية" لعنةً نزلت بالشعر العربي ولظروف موضوعية عديدة، وأزعم أن هذه "الأغراض" مازالت فاعلة في الشعر العربي اليوم، وللظروف الموضوعية ذاتها. وهي تتخذ أقنعةً خادعة شتى، ولكني لا أجد رأيي هذا هوساً ولعبةً ذهنيةً واعتباطاً. بل أضعه على قاعدةٍ محكومة بمنطق، وبالغة الوضوح. ولذا أُنكر على ناقد الشعر ومتذوقه أن تهزه أريحيةٌ حين يقرأ قصيدة للمتنبي في هجاء الإخشيد. أو قصيدة لعبد الرزاق عبد الواحد في مدح صدام حسين، أو قصيدة للبياتي في هجاء الشعراء "العوران والخصيان..".
ولكن المأزق الذي أتعرض له حين أقابل هذا الشاعر أو هذا الناقد والمتذوق، على أثر معارضتي وإنكاري لهما، هو نتاج خشيتي من سوء الظن. وهي خشيةُ بصيرةٍ داخلية يقِظةٍ من أن تُخلط الأوراق بين مقدار احترامي للكائن الحي في الإنسان، وبين إنكاري ومعارضتي لقدرته أو أفكاره. إن شعوري بالأسف والحرج مبعثه انعدام رغبتي الكلية في الإساءة الشخصية. فأنا أعتقد أن أفكارَ الكائنِ عرضةٌ لأهوائه، وبالتالي فهي عرضةٌ للتغير والتبدل.
هذا يحدث لي في أحيان متباعدة بسبب ندرة لقاءاتي، ولكنه حين يحدث أشعر بالأسف لحظة أرى تأثيرَ رأيي على مزاج الآخر وموقفه السلبي من شخصي.
نحن جميعأ نولّد أفكاراً، ونتحمس لها حين نجدُها لائقة ومؤثرة. ولكن هل يمكن أن نعتمدَ اللياقةَ والتأثيرَ معياراً ؟  إن مصداقيةَ الفكرة كامنةٌ في رائحةِ التربة في الفكرة، وفي مقدار تماسّها مع الوجودِ الحي. معظمُ أفكار اليسار الستيني السياسية والأدبية كانت في حينها لائقةً ومؤثرة، ولكن الزمن كشف عن مقدار افتقادها لرائحة التربة، ولتماسها مع الوجود الحي. ولم يعد أحدٌ من عصبة "التفكيكيين" أو "النقد الثقافي" العرب يتحدث اليوم باللياقة والتأثير ذاتهما اللذين كان يعتمدهما قبل عشرين عاماً. الحماقاتُ العقائدية اليقينية، متطرفةً كانت أو معتدلة، في ثقتها بالنفس أنضجت في داخلها، وفي سنوات متسارعة، ثعابين من حماقات عقائدية أخرى، أو بدت أخرى، ببشرة مغايرة ما كانت في الحسبان. الشجرة الفارعة الطول ذاتها، ولكن ما يوهم في تكوينها أن بذورها وسمادها الشائب في التربة يختلفان في الشكل والمظهر عن ثمارها في الأفق. على أن الجوهر فيهما واحد.
إن ردود الأفعال الشخصية من الرأي الفكري أو الذوقي غير الشخصي هي التي أضعفت قدراتنا على تحقيق ثقافة التنوع، وثقافة الحرية، والثقافة المتعافية. ولا شك أن لوثةَ اليقين العقائدي، الذي اعتقل العقول منذ عصور، هي التي أورثت التهابَ المفاصلِ في كياننا الروحي والعقلي، بحيث اتسع تأثيرها على كلِّ فاعلية سياسة، وفكرية، وذوقية، وأدبية، وفنية..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram