أفتح ألبومي الشخصي لأرى صورتي، طفلاً، جالساً أمام الكاميرا الشمسية محدقاً بالعدسة، متوتراً بشفتين يابستين.
يمدّ المصور ذراعه اليمنى وسط الكيس الأسود ليظهر الصورة.. هناك، إذن، وسط كيس الساحر، هذا، تُصنع صور الناس، بينما وجه المصور الخمسيني يحترق، تحت شمس بغدادية حادة، كما تحترق الأفلام.
"سيحترق فيلمك، يا ولدي، يوماً ما". قال المصور وهو يضحك.
قارئ البخت الأخرس يخبر أمي العمياء بإشارات لا تراها: بأن مصير هذا الولد غريب وغامض: حقيبة. سيارة كبيرة. طريق طويل. حرب. منفى. قلق. نساء جميلات لن تتزوج منهن سوى اثنتين.
بدأ المنفى بكتاب صار مئات الكتب على طريق آلاف الكتب، ما قرأه منها وما لم يقرأه، بعد، استقصاءً لتحدٍّ دفين، كان "أخاب الأعرج" في "موبي ديك" لهيرمان ميلفل من أوائل من أغووه بالتحدي، آه.. هذا هو الحوت الأبيض، أخيراً، وكل ما مضى بعيداً في البحر تتبدى بحار بعيدة عدة.
"أخاب الأعرج" يركض فوق الماء، يخترق اللجج ويركب الموج، مطارداً أحلامه الخطرة، ولم يزل يركض فوق الماء ولم تزل الأحلام خطرة.
لو تحققت الأحلام لن يكتب أحد الشعر، ولن يجد الثوار ما يفعلونه.
ثمة مهنة اسمها مطاردة الأحلام.
تتركّب الأحلام، كالأفلام، وتتدرّج من الهواية إلى الاحتراف، ثم التقاعد. أحلام الهواة تشبههم وأحلام المحترفين تشبههم وأحلام المتقاعدين تشبههم. كلٌ على وفق تجربته وخبرته ويأسه.
حتى فاجأه مام رسول، قائد المفرزة الأنصارية، يصرخ به عندما ضبطه يفرِّش أسنانه عند الروبار (*): أنا أريد بيشمه رگه لا راقصات!.
مام رسول، أمي، يشبه ستيف ماكوين: بشرة شقراء وعينان زرقاوان وفم دقيق، تجاوز الأربعين بقليل، قليل الكلام إلا عند الغضب. قريب من دكتاتور ذكي، قال: اسمعوا! أنا قائدكم فاتبعوني. ولأن طريقنا طويل جداً سنسير ببطء. الركض ضار على الدروب الطويلة. انقلوا خطواتكم على وفق نبض قلوبكم. الثلوج لها فوائد حتى لو تجمدت أقدامكم. الثلج يقي أقدامكم صلابة الصخر. وعلى السطح الأبيض، الأملس تتضاعف أشعة القمر.
قلت للدليل الكردي ونحن نزحف فوق ثلج حصاروست: حسب المنطق يستحيل عبور أعلى جبل في العراق!.
رد الدليل: هذا منطق العرب لا الكرد. فسكتُّ.
فعلاً، عبرنا حصاروست بنجاح ساحق، حسب منطق كردي صارم.
نقصت الشتائم العربية في كردستان شتيمة لم تعد في محلها.
لم يعد أحد يشتم أحد بوصفه بغلاً. صحيح أن البغل لا يحارب، لكن خدماته جلّى حتى قياساً بأفضل المقاتلين.
كتبت مرة: كنّا سبعة رفاق. ستة أنصار وبغل!.
سمعت مام رسول يشتم أحدهم، مرة، في اجتماع حزبي.
عندما وصل الدور لمام رسول ليرشح أحد الرفاق معاوناً لمسؤول المجموعة قال: أي واحد يصلح عدا هذا الحمار سيروان!. لم يقل البغل سيروان.
عن أهمية البغل يعدد مام رسول:
- البغال أقوى من دبابات صدام حسين.
- البغال تعبر حصاروست لكن دباباته لا تسير إلا فوق الطرق المستقيمة.
- الطائرات، وحدها، تخيفنا. لو مشت الطائرات على أربع لكانت بغداد عاصمة كردستان أو السليمانية عاصمة ثانية لبغداد.
رغم أني كنت في ثلاثينات عمري، لم أتوقع لكتفيّ هذه الجسارة.
حملت بندقية (لم أطلق منها رصاصة واحدة حتى مغادرتي الجبل) وحقيبة ظهر محملة بالكتب وأخرى أصغر تحوي أدوات حلاقة وخيوطاً وصابونة وأقلاماً وغيارات داخلية.
سخر مني أحدهم: بندقيتك هي سلاحك لا كتبك.
رد عليه مام رسول، وهو الرجل الأمي، موبخاً: بندقية بلا كتاب مثل حمار مسلّح.
(*) الروبار: النهر بالكردية
من ألبوم الجبل
[post-views]
نشر في: 28 مارس, 2016: 09:01 م