TOP

جريدة المدى > عام > محمد العبد الله.. الموت بلا عتبات

محمد العبد الله.. الموت بلا عتبات

نشر في: 30 مارس, 2016: 12:01 ص

حين يموت الشاعر في بيروت فإنه يترك خلفه الكثير من الوصايا والأصوات والأحلام، لأن المدينة الضاجة بالحياة لاتستسيغ الموت كثيرا. ورغم ذاكرة الموت والحرب فيها، فهي لا تقبل فكرة الموت إلّا بوصفها جزءا من سياق طهراني، يتسق وفكرة الخلود التي طالما يبحث عنها

حين يموت الشاعر في بيروت فإنه يترك خلفه الكثير من الوصايا والأصوات والأحلام، لأن المدينة الضاجة بالحياة لاتستسيغ الموت كثيرا. ورغم ذاكرة الموت والحرب فيها، فهي لا تقبل فكرة الموت إلّا بوصفها جزءا من سياق طهراني، يتسق وفكرة الخلود التي طالما يبحث عنها الشعراء، وحين يكون الميت شاعرا بامتياز محمد العبد الله، فإن الوصايا تبدو أكثر إشهارا، والأصوات أكثر تعبيرا عن الاحتجاج...
الشاعر اللبناني محمد العبد الله اختار الحياة بطريقة صاخبة، كان يفكّر كالشعراء البرناسيين المهووسين بالفكرة المتعالية، وربما انحاز اليها لأنها تخص بحثه الدائب عن الوجود والتفرد، إذ هو  مَعنّيٌ بوجودها، وبكل طقوسها التي كانت تُحرّضه على  صياغة الأفكار والأناشيد والحكايات أكثر مما تدعو للأشكال الأنيقة التي تشبه فرجة الأزياء..
قصائده لا أزياء لها، واضحة، غامرة بالاصوات، والرغبات، والإحساس بالجموح، والمفارقة، والسخريات المُرّة، إذ يضع فعل الكتابة وكأنه التماهي مع مزاجه الشخصي، أو حتى نشيده الخاص- المحكي أحيانا- الذي يمارس من خلاله حضوره. فمنذ (رسائل الوحشة) وهو يندفع الى أقصى اللغة، يشاطرها لعبة البوح والصخب، والتمرد على سياقات (اللياقة الشعرية) التي ظلت الى حدٍ ما قرينة بالشعرية اللبنانية، بوصفه شعريةَ مدينةٍ مائيةٍ، وطبيعة رخوة، وحيوات تساكنها الخفّة والرقة، لكن محمد العبد الله الجنوبي/ الريفي كسر وهم هذه اللياقة، وجاء الى بيروت على طريقة الدونكيشوت يصطنع له طواحين هواء، وسيوفاً من خشب، ونساء خارج الطبقات..
حروب بيروت كسرت الكثير من أوهام ذاكرته الجنوبية، ووضعته في سياق قلق، سياق لايطمئن فيه إلّا عبر اللغة، بوصفه نوعا من الوجود الهيدغري، أو بوصفه مجالا تعويضيا، يمكن أن يساعده على أنسنة التمرد، والمرور الى (برجوازية) المدينة، ومشاطرة فرسانها الطبقيين لذة الرؤية، والتفكير بطريقة صاخبة..
اجترح له فضاء الحرب الكثير من الزوايا، والكثير من الحوارات والكشوفات، حتى صار العبد الله لصيق أمكنتها السرية، وحاناتها التي تشبه حانته المتخيلة (حانة سيدوري) إذ صارت سكرته بحثا عن ما يشبه غواية باخوس، فهو الباحث عن اللذة، وعن الفكرة، وعن العبارة التي لاتضيق مع اتساع الرؤيا..
كتب محمد العبد الله كل شيء، فهو يعيش هاجس المغامر، المتمرد، كتب القصيدة التي تُغَنّى- جمع قصائده المغناة في مجموعته الشعرية "أعمال الكتابة/ الفارابي 2016-" ، مثلما كتب القصيدة التي تتجاور فيها النثرية مع الإيقاع والتي تدفع للتأمل. هو لم يُعن كثيرا بنوع الكتابة- القصيدة، المسرحية، القصة، حكايات الأطفال، القصائد المحكية، بل بقدرتها على أن تكون جزءا منها، وأن تُعبّر عن لحظة وعيه النافرة، إذ لم يشأ أن يراقب مجرى قصيدته، بقدر ما كان يراها وهي تكتمل أمامه، وتضعه عند شغف الآخرين، الذين كانوا ينظرون الى قصيدته وكأنها بيان شعري، أو نشيد، أو محاولة في الشتيمة. فهو يصرخ ويشاغب في القصيدة، نبرته العالية تكشف عن وجع خفي، عن حزنٍ جنوبي ظل عالقا فيه، وإذ أدركته المدينة بكل جموحها وحروبها وصخبها، فإنها لم تُخفف من تلك النزعة، بل وجد فيها الكثير من شعرائها مسكوتهم السري للمنافحة والمشاكسة والبوح عاليا..
في مجموعته الثانية (بعد ظهر نبيذٍ أحمر...بعد ظهر خطأ كبير)1981 بدأ لعبة المغامرة، وغواية أن يكون في منتصف المدينة، كاشفا عن(عريه الشخصي) وعن رغبته في المغايرة، وربما في الانحياز الى مايسمى بـ (شخصنة القصيدة) تلك التي لاتتركه للمشابهة والتكرار والوقوف عند عتبة الفرجة..كانت قصائد المجموعة أشبه بالصدمة، بدءا من مفارقة العنوان، وليس انتهاء بهاجس التمرد على وهم الشاعر المُغنّي، وعلى فداحة مايراه من خيبات تترى، وانكسارات تطول الشاعر والمكان والمعنى والتاريخ والمدينة...
وحين واصل نشيجه في كتبه الشعرية( جموع تكسير/ تانغو، بلا هوادة، قصائد بيروت، حال الحور، زهرة الصبّار وغيرها) كان بالمقابل يواصل بنوع من الاحتجاج العلني، والاصرار أن يجاهر بصورة الشاعر الذي يرى، وليس الشاعر الصنايعي العاطل، وأحسب أن هذا الهوس هو الذي جعله عرضةً لكل شيء، القلق، الحزن، الوجع، محاولة النسيان، وأخيرا الموت الذي لم يهادنه أبدا..
إنني مستوحد كقمر الصيف يا مريم
كشرفة بساهر وحيد
وكأغنية ذاهبة في الليل
أريد أن أقول لك شيئا:
البحر مقفل على الشاطئ
قلبي مقفل عليك.
أريد أن نسبح معا على شاطئ رملي واسع
أن نركب معا في الطائرة
ونطلَّ من النافذة الصغيرة
لنرى الأنهار وقرى السفوح والغابات
أخرجي من قلبي قليلا يا مريم
أريد أن أصِـفك كما يفعل الشعراء
وأريد
أن أمسك كفّك الصغير كسمكة صغيرة
وأقرأ لك الحظ:
حظك عظيم يا مريم
كعاصفة في صحراء , كحريق في غابة
وكعروس
تعزف لها الأوركسترا
ويرشون عليها الكولونيا والأرز
حظك عظيم يا مريم
كصباح العيد
زفافك عظيم يا مريم
أمام الشعب في الساحةِ العامة

وأنا ارفع يديّ عالياً
وأقسم بأن أجعلك ملكة على قلبي
فيندلع رصاص كثيرمن آلاف البنادق
في سماء القرى الزرقاء
بينما توزّعين الحلوى على الأطفال
وعيناك تدمعان من الضحك المتواصل
وأسنانك تلتمع مقابل الشمس
نبيذ للجميع يسكبه أبوك
مناديل ملونة للجميع توزعها أمك
والنوبة... والطبل... والمجوز
وطوائف تدبُكُ في الأرض
بينما أقف على رأسي من شدة التأثر
ويتحلّق الشباب حولي ويعدّون : واحد، اثنان، عشرة
ثم أطلب يدك إلى الرقص
أطلب يدك إلى نبيذ روحي
ويتخاطفك الشباب مني كبندقية
ويطلقون عاليا في الفضاء
كقوزاق يحفرون الأرض بأقدامهم
كقطعان تشبي بعضها
في غلمة الربيع المشتعل بالأقحوان....

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram