7-7
في رواية البغدادي الأصل سامي ميخائيل فيكتوريا، نعيش الصحن الداخلي في البيوت البغدادية، إنه مسرح الحياة الذي تدور عليه حياة عائلة كثيرة الأفراد، كل شيء يدور هناك، هنا تطبخ ربات البيوت وتُغسل الملابس، هنا تجلس العائلة مع بعضها، تتحدث، أو تسهر في ليالي الصيف المقمرة. ولكن هنا أيضاً تنشط أقدم طريقة لنشر الأخبار، فمن فم إلى آخر تدور الإشاعات وتُنقل بسرعة البرق. هنا أيضاً تسخن الأمزجة بسرعة وتفور. كل إهانة، كل ولادة جديدة، كل نزاع، كل نظرة حب، كل لمسة، تُلفت النظر بسرعة. السجادة الجميلة البغدادية التي فرشها لنا سامي تحولت إلى بساط ساحر، ليس بسبب جمال النسيج وأصالته الذي حاك قصته منه وحسب بل – أكثر من ذلك – بسبب كل التفاصيل الصغيرة التي وضعها بعضها إلى جانب بعض: تلك هي قوة رواية فكتوريا.
«السماء تضيء بالنجوم الصغيرة أيضاً»، أعتقد أنه الألماني برتولد بريشت الذي كتب ذلك. في سماء بغداد التي يصفها سامي ميخائيل بدقّة، ولولا الضوء الذي زوّدتنا به التفاصيل الصغيرة هذه، حياة العائلات التي لا يترك سامي ميخائيل صغيرة أو كبيرة من يومياتها إلا ويصفها، بنظافتها وبقذارتها، بسموّها وهبوطها، بتعاليها وذلّها، لولا تفاصيل «بورصة» حياة العائلات اليومية هذه، لما تعرفنا على الضوء الآخر الذي انتشر في سماء بغداد آنذاك، لما عرفنا التفاصيل الكبيرة التي دارت خارج ساحات البيوت البغدادية التقليدية، خارج الحوش. سامي ميخائيل يروي قصة فكتوريا وأمام عينيه بانوراما حدث تاريخي كبير: انهيار الإمبراطورية العثمانية، دخول الجيش البريطاني واحتلال بغداد، تأسيس الدولة العراقية الجديدة، وبعدها: تأسيس دولة إسرائيل. كل ذلك يتجلى أمامنا في علاقته المباشرة وغير المباشرة مع القضية «الكبرى» التي أخذتها فكتوريا على عاتقها. فكتوريا التي عاشت كل تلك الأحداث كانت معنية بقضية واحدة قبل كل شيء، قضية واحدة تخصّها فقط، قصة حبها لابن عمها «رافائيل»، رافائيل الذي يشعر بالاختناق في عالم العائلة الضيق فيتمرد عليه ويقرر الانطلاق إلى العالم الحديث. تلك هي معضلته (معضلة فكتوريا أيضاً)، يطلب من فكتوريا أن تظل سجينة في عالم العائلة الضيق، أن تظل مخلصة لتقاليد وعادات عائلتها. ربما وافقت فكتوريا على مضض في المرحلة الأولى من عيشها مع رافائيل بسبب حبها له، أو أكثر بسبب أملها، أن تتغير الحياة ويتغير هو معها أيضاً، لكن عندما يهاجر رافائيل ويتركها مع أطفالها، تكافح الجوع والبؤس، تبدأ فكتوريا بالكفاح لانتزاع خصوصيتها، استقلالها، ذاتيتها.
هجرة فكتوريا مع عائلتها إلى إسرائيل كانت بالنسبة لها بداية الانطلاق لتأسيس عالمها الخاص، فمهما قيل عن هجرة اليهود إلى إسرائيل، إلا أن أمراً واحداً يظل ثابتاً: بقدر ما جاءت تلك الهجرة بسبب بواعث مصيرية جماعية، بقدر ما كانت بالنسبة لعدد كبير من المهاجرين أيضاً قضية لها علاقة بالحرية، بالبحث عن ملاذ جديد لتأسيس عالم خاص. فكتوريا هي أحد هؤلاء: العالم مشغول بالأمور الكبيرة من أمامها، وهي مشغولة بالقضية الخاصة بها. وهل هناك قضية أكبر من قضية القلب وشؤونه؟
الآن، وأنا أكتب عن الروائيين البغّادة الثلاثة هؤلاء، أكتشف كم أنا مدين لهم بالعرفان. تعرفي عليهم، على أعمالهم، على حياتهم الأولى التي عاشوها في بغداد، والثانية التي عاشوها في بلدهم الجديد، جعلني أتعرف على كل التفاصيل الصغيرة المندثرة التي ما كان من السهل معرفتها لواحد مثلي نما في بلاد حرصت على محو كل ما له علاقة بوقوع الكارثة التي حلّت علينا جميعاً من ذاكرتها، جعلني أعرف بغداد؛ بغداد التي كانت، وبغداد التي ما كان يجب أن تصل إليه. من غير المهم أن كل واحد منهم اخترع بغداد«ـه» الواقعية على طريقته، على هواه، ففي النهاية، ألا أفعل أنا ذلك أيضا، أنا القادم من بلاد انهدّ سقفها على رؤوسنا؟ ألست أنا مثلهم، وأنا أقوم باختراع بغداد«ي» الخاصة بي، بغداد عشت فيها أحلى أيام حياتي وأمرها، والتي منذ أن غادرتها في سواد ليلة 28 تشرين الأول/أكتوبر 1980 وحتى اليوم وأنا أحضنها في بؤبؤ عينيّ فناراً يضيء لي دربي أينما حللت؟
ثلاثة كُتّاب.. ظلت بغداد كل حياتهم
[post-views]
نشر في: 29 مارس, 2016: 09:01 م