TOP

جريدة المدى > سينما > غاتسبي العظيم.. انحطاط وعيب الحلم الأميركي

غاتسبي العظيم.. انحطاط وعيب الحلم الأميركي

نشر في: 31 مارس, 2016: 12:01 ص

2-2بين الكتابات النقدية الأولى الرافضة للرواية، كان واحدا بقلم الناقد المؤثر أتش أل مينكن، الذي دعا  "غاتسبي" بأنها ليست سوى  (( حكاية ممجّدة )). محبَطا، على نحو مفهوم، من الفشل العام للفطنة النقدية من حوله، كتب فتزجيرالد الى صديقه ادموند و

2-2
بين الكتابات النقدية الأولى الرافضة للرواية، كان واحدا بقلم الناقد المؤثر أتش أل مينكن، الذي دعا  "غاتسبي" بأنها ليست سوى  (( حكاية ممجّدة )). محبَطا، على نحو مفهوم، من الفشل العام للفطنة النقدية من حوله، كتب فتزجيرالد الى صديقه ادموند ويلسون: (( من دون عقد أية مقارنات تثير الاستياء بين الدرجة الأولى والدرجة الثالثة، إن كانت روايتى هي حكاية، فرواية " الإخوة كارامازوف "هي أيضا حكاية... من كل الكتابات النقدية، حتى أكثـرها حماسة، لا واحدة منها لديها أدنى فكرة عمّا يدور حوله الكتاب. )) من المحتمل أنه كان سيقول الشيء نفسه حول النسخ الدرامية التي ظهرت، والتي سيجادل البعض منّا أنها انحرفت بعيدا عما كانت تدور حوله الرواية، وباتجاه أساطيرنا عنها، لكن فتزجيرالد، لا مراء في ذلك، كان سيبتهج لأن روايته بقيت ملهِمة لزمن طويل.

حين ألّف "غاتسبي العظيم"، كان فتزجيرالد واحدا من أكثر الكُتّاب نجاحا في مجاله، وسط عشرات الكُتّاب الأكثر كسبا في المجلات القصصية. كان في مقتبل العمر، مندفعا، طموحا؛ حين كان لائقا بقصة نجاحه، فاز بحسناء الاباما زيلدا ساير وأصبح الزوجان سريعا اسطورة بعربدتهما، مجسّدان ’’ الفلابرز والفلاسفة ‘‘، الذين احتلوا عصر الجاز – الاسم الذي أطلقه فتزجيرالد نفسه على ذلك العهد، والذي ما زال هو وزيلدا يمثلانه.
لكن كانت لدى فتزجيرالد ايضا طموحات فنيةجادّة، وعندما بدأ برواية "غاتسبي العظيم" كان في صدد كتابة ’’ إنجاز فني بشكل واعٍ ‘‘. (( أريد أن أكتب شيئا ’’ جديدا ‘‘، )) كما قال لناشره، ماكس بيركنز، في صيف 1922، (( شيء استثنائي وجميل وبسيط ونموذج يُحتذى به ))؛ أضاف فيما بعد، أن روايته الجديدة يجب أن يكون لها (( الشيء الأفضل الذي أنا قادر عليه، أو حتى، كما أشعر أحيانا، شيء أفضل مما أنا قادر عليه )). من البداية الى النهاية، إنها قصة حول القدرة، حول بلوغنا ما يتخطى حدود فهمنا.
ماجعل "غاتسبي" ’’ جديدة ‘‘ على نحو لافت للنظر هو، على اية حال، ليس تركيزها على الحياة العصرية: لم يكتب فتزجيرالد عن شيء آخرمن بداية مسيرته الأدبية. منذ ظهور روايته الأولى "هذا الجانب من الفردوس"، كان القرّاء مصدومين بكشوفاته عن الجيل الأكثر شبابا، المسرفين في شراب الجن، ناشطي الحفلات، راقصي الطاولات، شبانا وشابات الذين كانوا يصطادون الشبوط ويرقصون على الإيقاعات الوضيعة للجاز. وواحد من أسباب أن أغلب قرّائه الأولين لم يتمكنوا من رؤية عظمة "غاتسبي"، كان لأنها، هي ايضا، بدت مجرد تقرير عن عالمهم العصري.
كان عالما لم يفهمه الا القلة أفضل من الفتزجيرالديين. عندما بدأت سنوات العشرينات بالصخب، امسك سكوت ووزيلدا كأسي شراب وقفزا وسط خشبة المسرح، حيث بقيا حتى الثلاثينات، عندما بعثتهما القوة الطاردة من المركز لحياتهما مترنحين في الحدود القصوى. حتى ذلك الحين، كان الفتزجيرالديون حياة وروح الحفلات المحظورة، وكان هو مسجّل وقائعها الأعظم.
(( بدا ان ثمة شكّا ضئيلا حول ما كان سيحدث، )) كتب فتزجيرالد فيما بعد. (( كانت امريكا ماضية في فورتها الأكثر عظمة، الأكثر بهرجة في التاريخ. )) عند بدايات العشرينات، استطاع أن يشعر مقدما بأن (( كامل الازدهار الذهبي كان من غير أساس – وفرته الباهرة، الفساد المفرط والسياسة الملتوية لامريكا القديمة في التحريم. )) حين بدأت هذه الفورة، رأى فتزجيرالد أن (( صورة جديدة عن الحياة في امريكا أخذت تتشكّل أمام عينيّ. )) بحلول عام 1924، كان يرسم صورة متعذّر محوها عن تلك الحياة الجديدة، التي بدأها بروايته الجديدة عام 1922  تماما بعد (( القرار العام بتسلية نفسه الذي بدأ مع حفلات الكوكتيل عام 1921 )) )، في سبيل أن يروي عن (( عرق بكامله في سبيله ان يصبح من اتباع مذهب المتعة، عازما على الملذات )).
كانت الحفلة بدأت، وكل امريكا كانت مدعوة. بقي الغنى حاجزا اجتماعيا، لكنه لم يعد عسيرا على الاختراق. الحانات غير المرخص بها حطمت الحواجز الاجتماعية القديمة بخلقها أمكنة تكون فيها الطبقة الارستقراطية والطبقات الدنيا كتفا لكتف. في الوقت ذاته، المال الجديد الآتي من التجارة غير الشرعية للمسكرات ومشاريعها المشابهة، ومن سوق الأسهم غير المنظّمة بالكامل تقريبا، مكّنت من النهوض السريع لرجال نشيطين – وبعض النساء المهيئات لمخالفة قانون واحد أو اثنين: وسيفوز الأغنياء لاحقا بإغواء المثقفين للانضمام الى الشغب. كان الفساد مستشريا، ومخالفة القانون غدا فجأة طريقة حياة. لكن حتى وسط الازدهار، تلبث الفقر: في الاقتصاد التحريضي للتُجّار غير الشرعيين، لسالبي الأموال بالخداع، للعصابات، للعاهرات، للقوّادين ومروجي الكوكايين، وفي اقتصاد الخدمات الشرعية لسائقي الباصات وعربات الأجرة، وخدم وخادمات الفنادق، والمهاجرين من اوروبا، أو العمال المهاجرين السود من الجنوب، المساقين للهجرة الى الشمال العظيم، والذين انتهوا في هارلم. نمت النوادي الليلية حيث الجاز وشراب الجن ورقصتي الشارلستون والبلاك بوتوم.
أدرك فتزجيرالد في وقت مبكر أن الحفلة لا يمكنها أن تدوم الى الأبد. (( كان وقتا مستعارا، على أي حال – العُشْر العلوي كله من الأمة يحيا بعدم مبالاة بالغراندوقات أو الموسيقى الكورالية. )) بعد أقل من خمس سنوات من نشر "غاتسبي"، تعرّض السوق للانهيار، وهبط الـ ’’ Great Depression ‘‘ [  الركود العظيم – الإنهيار المالي والصناعي لعام 1929 والسنوات اللاحقة ] مثل ستارة فوق المهرجانات. بدأ فتزجيرالد بالتأمل في العهد الذي اتفق انه لخصه في سلسلة من المقالات العظيمة – "مدينتي المضاعة"، "أصداء من عصر الجاز "، "نجاح مبكر"، والمقالة المنسية الى حد كبير "جيلي" – وقصص مثل القصة التي تلازم الذاكرة "بابل مزارة ثانية".
"غاتسبي" هي حكاية خرافية عن خيانة – الآخرين ومثلنا العليا. الفكرة العامة التي تقول ان ’’عالما جديدا‘‘ في امريكا هو حتى ممكن، والذي ببساطة لن ينتج حماقات ورذائل ’’العالم القديم‘‘، هي مسبقا وهم، فردوس مفقود  حتى قبل أن يكون متخيَّلا. بحلول الوقت الذي حاول فيه غاتسبي دفع ذلك العالم لتحقيق وعده، كان الحلم تبدد. لكن ذلك لم يوقفه عن تعقّب ’’ الضوء الأخضر ‘‘ للغنى والمنزلة الرفيعة، الوعد المتبوع بالسلطة التي يمكنها فقط خلق بلوتوقراطية فاسدة مدعمة بتفاوت اجتماعي وسيع.
في المقطع الختامي الذي لا يُنسى من "غاتسبي العظيم"، يشرح فتزجيرالد بوضوح أنه إذا كانت قصته هي حول امريكا، فإنها ايضا حكاية عالمية عن الطموح البشري. يهيم نيك كاراواي على شاطئ حافة القارّة ويتخيل بحارا هولنديا يشاهد امريكا أول مرة: (( أشجارها المختفية، الأشجار التي شكّلت دربا الى منزل غاتسبي، خاضعة في همس الى الحلم الأخير والأعظم من كل الأحلام البشرية؛ للحظة ساحرة عابرة، كان الرجل يحبس أنفاسه في حضرة هذه القارّة، مجبرا على تأمل جمالي لم يفهمه ولا رَغِب فيه، وجها لوجه لآخر مرة في التاريخ أمام شيء متكافئ مع قدرته على الدهشة. ))
الأشجار رحلت منذ زمن طويل، وحلت محلها قصور عاميّة الذوق وأرض يباب من أكوام رماد قريبة من المكان الذي يعيش فيه المسكينان جورج وميرتل ويلسون، (( مجاوران للاشيء على الإطلاق )). ما بقى هو ما كان هناك دائما – الخيال. لكن حتى هذا يقطعه فتزجيرالد: خضوع، هو، رغم كل ذلك، إسعاف لمحض مسرّة. فكرة ان امريكا خاضعة لخيالاتنا هي العكس تماما للحلم الامريكي. نحن نطارد الى الأبد ضوءا أخضر، وهما، وعدا كاذبا من تفويض الذات لما نحن يائسون من تصديقه. ومع أنه كذبة، لايمكننا العيش بدونه، لأننا دائما بحاجة الى شيء متكافئ مع قدرتنا على الدهشة، حتى لو اُجبِرنا على تأمل لا نفهمه ولا نرغب به.
وهكذا نحن نترنح ماضين ضائعين في عاقبة الدهشة التي تلي "غاتسبي العظيم".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: ارتفاع في درجات الحرارة الاسبوع الحالي

الكويت تنفي تدهور الحالة الصحية لسلمان الخالدي الذي تسلمته من العراق

ترامب: نريد 50% من ملكية تطبيق تيك توك

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram