((هناك دور تلعبه الموسيقى بمجرد أن تمتلئ الشاشة ،ليس بالضرورة أن تسمع كل التفاصيل ،لكنها ستكون وراء الحدث في السرد ،من حوله ،في الأمام منه ،وعلى جانبيه ))المؤلف الموسيقي جيمس نيوتن هواردفي الأجناس المختلفة للسرد الأدبي والفني بشكل عام ،نحن نرتب الصور
((هناك دور تلعبه الموسيقى بمجرد أن تمتلئ الشاشة ،ليس بالضرورة أن تسمع كل التفاصيل ،لكنها ستكون وراء الحدث في السرد ،من حوله ،في الأمام منه ،وعلى جانبيه ))
المؤلف الموسيقي جيمس نيوتن هوارد
في الأجناس المختلفة للسرد الأدبي والفني بشكل عام ،نحن نرتب الصور والاصوات في أنماط تم التعرف عليها وفقا لمفردات بصرية او سماعية ما يتيح للمتلقي وضعها بشكل بديهي في اطارها الملائم وفقا لمجموعات محددة مسبقا من المعلومات (البصرية والسماعية) ،لكن حين يتعلق الامر بثنائية السينما والموسيقى كشكل واحد –الفيلم- ،فإن الحال يشرع بالامتداد نحو الجوهر،لأن الامر لم يعد ثوابت اساسية للفهم والتفسير بل هو ينجرف نحو الاحساس المنبثق من (الرؤية،السمع،الشعور) ،فالمؤلفات الموسيقية السينمائية الاكثر تأثيرا كانت تدور في نهج الجمع بسلاسة فائقة تنسجم فيها هذه اللحظات الحسية مع الجزئيات الاخرى بهارموني عالٍ،وهو ما يثبت له حيزا في الذاكرة يسجل حضور هذا المشهد،تلك اللقطة،او حتى فيلما برمته،ليظل صداها يتردد في خيالنا كصورة مُشاهَده وموسيقى مسموعة،رغم اننا لانشاهدها ولا نسمعها فعليا لأنها قد تكون مرة واحدة فقط .
في العادة فإن الأفلام تتشكل سرديا من اجتماع الصورة والصوت،الا ان الموسيقى لاتُعنى بالضرورة بخدمة السرد بذلك المستوى الذي تقدمه هذه العناصر،بل احيانا تنحو بشكل مستقل وتفرض بقوة حضورها الشكل العام للفيلم ،وعندما تكون النتيجة المستقاة تخدم السرد بهذا الوضوح فإن العديد من الخبراء يميزون بين الموسيقى التي تستحضر روح القصة فتسمى (موسيقى اصلية) وبين الموسيقى التي تشكل مكملا للقصة فتسمى (النتيجة).حتى الان شكّل الانقسام الواضح بين الباحثين والدارسين في هذا الحيز حول ماهية دور موسيقى الافلام غشاوة زادت الامور تعقيدا وفتحت المجال أمام عودة النقاشات الفلسفية القديمة عن ((الأصالة ،التمثيل ،التعبير ،الاستقبال)) للمختصين في حقول (الدراسات السينمائية،وسائل الاعلام،الدراسات الثقافية،علم الجمال،علم الموسيقى التاريخية،نظرية الموسيقى،علم النفس والموسيقى)،فالبعض يدعي ان الموسيقى تمتلك القوى التمثيلية والتعبيرية بشكل واضح،بينما يُصر البعض الاخر على ان هذه القوى محدودة للغاية. ان التطور الكبير الذي تحصل ضمن اطار موسيقى الافلام يُظهر لنا حجم الاشكالية التي تمثلها وهو مايُبين حتما درجة الاهمية التي اكتسبتها.
حين كتب المؤلف الموسيقي الفرنسي إريك ساتي في العام 1924 ما نصه ((الموسيقى يجب ان تبرز الصورة والحدث دون ان تأخذ اهمية بارزة،ومن غير ان تفرض نفسها عن طريق الألحان الهارمونية القابلة لاجتذاب المشاهدين وصرفهم عن الصور ،دورها يجب ان يكون زخرفيا بحتاً))،لم يكن سوى توضيح لشكل العلاقة بين السينما والموسيقى بشكل مبدئي ،ووضعا لأسس تزيل الضبابية التي سادت بعد دخول الموسيقى بكل ما تملكه من قوة تأثير وسطوة على المتلقي في صناعة السينما،اذا ما علمنا انها في البدايات كانت تُعزف بشكل مباشر عن طريق فرقة موسيقية تصاحب عرض الفيلم،الامر الذي كان كثيرا مايسرق انتباه المتفرجين ،وعلى نفس المنوال نسج الفرنسي الاخر المؤلف الموسيقي موريس جوبير والذي وضع الموسيقى التصويرية للعديد من الافلام الجيدة مثل اتالانتا (1934)،الملياردير الاخير (1934)،ميناء الظلال (1938)،فكتب يقول توضيحا لدور المؤلف الموسيقي في السينما ((لنذكر الموسيقيين بشيء من التواضع ،فنحن لانأتي الى السينما لكي نستمع للموسيقى،بل في الواقع نحن نطلب منها ان تعمق لدينا الانطباعات المرئية،وايضا لانطلب منها ان تكون معبرة وأن تضيف مشاعرها الى احاسيس الشخوص او مخرجي الافلام ،ولكن نطلب منها ان تكون زخرفية وأن تضيف هذه الزخارف الى تلك الصور التي تقدمها لنا الشاشة،وأخيرا ان تتخلص من كل العناصر الذاتية لتقدم لنا في ختام الامر وبطريقة محسوسة الايقاع الداخلي للصورة دون ان تترجم المحتوى العاطفي او الدرامي او الشاعري )).كان هذا في الثلث الاول من القرن العشرين حيث عمل العديد من المؤلفين الموسيقيين الكبار سواء في اوروبا او امريكا وخصوصا بعد ظهور السينما الناطقة في العام 1927 وانبثاق مايعرف بالمدرج الصوتي المتزامن حيث فرضت على المؤلف الموسيقي قيود جديدة بعد ان وجد نفسه ملزما بإخضاع موسيقاه لفترات زمنية بالغة الدقة لتتماشى مع الصورة (الحدث) بالاضافة الى اخضاعها لمقتضيات حبكة القصة وتعقيدات المدرج الصوتي ،على تشكيل الملامح العامة والأسس المبدئية لدور الموسيقى في السينما.
يقول ألدوس هكسلي ((ان الموسيقى تأتي اقرب الى التعبير عما لايمكن التعبير عنه)) . لطالما لعبت الموسيقى دورا كبيرا في أنسنة الطبيعة البشرية لما تملكه من مزايا تجعلها تنفذ الى القلب دون تدخل الذهن الواعي ،ولقد شكلت اعمال موسيقيين عباقرة ثقافة روحية رفعت من مستوى الصحة المجتمعية. وكما يقول المؤلف الموسيقي الالماني باول هندميت ((ان الموسيقى في افضل حالاتها تستطيع ان تغير العالم والبشر،فمن شأن قوانين الهارموني واللحن والايقاع اذا تم استخدامها على اكمل وجه في اعمال موسيقية رفيعة المستوى ان تحول هموم العالم واخطاءه الى ملاذ مثالي للبشر)).وفي بواكير صناعة الافلام ادرك السينمائيون الاوائل التأثير العميق للموسيقى في اعطاء الصورة الدفق النفسي المساعد لإيصال الفكرة للمشاهد بسهولة ويسر بالاضافة الى ترطيبها للأجواء وتقليل حالة الملل التي قد تصيب المتلقي للفيلم السينمائي،وعليه اصبح من اليقين حاجة الشريط السينمائي لموسيقى ترافق الحدث وتدعم المشهد وهو ماسُمي بالموسيقى التصويرية.
ان وجود الموسيقى كجزء من منظومة الفيلم السينمائي هو امر لا لبس فيه للقدرات التعبيرية التي امتلكتها لتمثيل الاشياء والشخوص من خلال بيئة نغمية خصبة ومتفتحة الآفاق بشكل غير محدود وهو ما عبر عنه موسيقي عبقري مثل موتسارت بالقول عن احدى مقطوعاته ((لقد عبرت عن خفقات القلب الولهان بمجموعة الكمان ،بحيث يمكن ان تلمس ذبذبة القلب ،وبوسعك ان ترى كيف يتنهد القلب بصدره المنفتح عن طريق التصعيد "التعاظم في قوة الصوت")).وعلى هذا الاساس قام المؤلف الموسيقي كاميل سانت ساينز بتأليف الموسيقى التصويرية للفيلم الفرنسي الصامت (اغتيال دوق ديجايز) عام 1908 ،كما عَمَدَ السينمائي الامريكي الرائد د.و.جريفيث الى وضع موسيقى فيلميه (مولد أمة) عام 1915 و (تعصب) عام 1916 حيث كانت تقوم فرقة موسيقية بعزفها بمكان مخصص لها بمقدمة صالة السينما،وفي العام 1921 كُتبت لاول مرة موسيقى من قبل ماريوس فرانسوا جيار مطابقة تماما لزمن احداث فيلم (إيلدورادو) للمخرج الفرنسي مارسيل ليبرييه وفي نفس الفترة تقريبا وضع ارتور هونيجير موسيقى فيلم (العجلة) للمخرج ابيل جانس .اهمية الموسيقى ودورها في السينما يتوضح من خلال ادراك احد اشهر نجوم تلك الحقبة شارلي شابلن لقيمتها في تقوية نسيج الفيلم حين وضع بنفسه موسيقى فيلمه المهم (اضواء المدينة) عام 1931،وشكل العام 1933 محورا مفصليا في تاريخ العلاقة بين السينما والموسيقى حين ألّف الموسيقار النمساوي الكبير (ماكس ستاينز) عددا من المقطوعات الموسيقية التصويرية لمجموعة من الافلام اظهر فيها تجانسا غير مسبوق مع الاحداث ضمن سرد الفيلم ما ترك اثر عميقا وواضحا على جمهور الصالة جعله يتبوأ موقعا رياديا عظيما في تأسيس وتشكيل الموسيقى التصويرية التي نعرفها اليوم،حيث لم تعد مجرد معزوفات عشوائية بل ألحان مدروسة تربط بين الصورة وبين المشاهد،وضع ساينز الحائز على جائزة الاوسكار ثلاث مرات مئات المقطوعات الموسيقية لافلام انتجتها هوليوود كان من اشهرها (المخبر) 1935،(ذهب مع الريح) 1939،(كازبلانكا) 1942.بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لما خلفته من آثار اجتماعية ونفسية ظهرت الحاجة لنمط جديد من موسيقى الافلام وهو ماتجلى في ماقدمه المؤلف الموسيقي ميكلوس روزا من خلال موسيقى تصويرية قلقه تعبر عن التوتر والهواجس التي تجتاح الشخصية الرئيسية وذلك في الفيلم الرائع (دائخ) للمخرج الكبير الفريد هتشكوك والتي تحصل من خلالها على جائزة الاوسكار عام 1945،من اشهر الافلام التي ألف موسيقاها التصويرية (حياة مزدوجة) 1947،(بن هور) 1959،(يوليوس قيصر) 1953.اما الموسيقار هيوجو فريد هوفر فقد تمكن في فيلم (افضل سنوات حياتنا) 1946 من تقديم مقطوعة موسيقية مذهلة جمعت بين مشاعر الفخر والحزن للجنود الامريكيين العائدين من الحرب منحته جائزة الاوسكار في ذات العام.
يتبع