دواعي الستراتيجية المقترحة
 
القسم الثاني1ــ اذا كان المجتمع ينظر الى الاشياء بثقافته وليس بعينيه، عند ذاك ندرك ان المدخل الحقيقي للارتقاء بالمجتمع ينطلق من النهوض بثقافته، ذلك انها المدخل الذي لابد منه اذا ما اريد تسلق سلم التطور ماديا ومعنوي

دواعي الستراتيجية المقترحة

القسم الثاني

1ــ اذا كان المجتمع ينظر الى الاشياء بثقافته وليس بعينيه، عند ذاك ندرك ان المدخل الحقيقي للارتقاء بالمجتمع ينطلق من النهوض بثقافته، ذلك انها المدخل الذي لابد منه اذا ما اريد تسلق سلم التطور ماديا ومعنويا  ، وهذا ما التفتت اليه الكثير من التجارب التنموية في بلدان مختلفة كماليزيا والبرازيل وكوريا الجنوبية وغيرها عندما أولت التعليم اهتماما خاصا. وعلى هذا لابد من وضع الستراتيجيات اللازمة لإعمار ثقافتنا وتحديد الآليات التي من شأنها تنفيذ تلك الستراتيجيات عبر اختيار فرق كفوءة في ميدان العمل ، ذلك ان المستقبل تراد له ثقافة مغايرة لما هو سائد، فالكثير من عناصر منظومتنا الثقافية لا يتلاءم مع معطيات المستقبل التي تفترض شيوعا  للتفكير العلمي بدل انماط التفكير المتخلفة التي يتداولها المجتمع في الوقت الراهن ، ذلك ان هذا النمط في حال شيوعه كفيل بالقضاء على غالبية الامراض المزمنة في ثقافتنا ، وفي هذا يكمن جانب من أهمية البحث في الستراتيجية المقترحة .
2ــ كما تتجسد الاهمية في رسم ستراتيجية لإشاعة ثقافة معاصرة في العراق ، ذلك انه بالرغم من الرغبة المعلنة بضرورة ان تواكب الثقافة التغييرات الشاملة التي يجري العمل على إحداثها في البنية السياسية والاجتماعية . ومع ان آليات العمل الثقافي تتحدد على وفق الأهداف، الا ان الجهات المعنية لم تتمكن من وضع الستراتيجيات المناسبة، بسبب ان نوع الثقافة بوصفه هدفا ستراتيجيا لم يجر بلورته بعد، ، وفي الوقت الذي ينتظر فيه من تلك الجهات وضع الستراتيجيات الثقافية، نلحظ استمرار الصراعات والانقسامات بين أطرافها .
3ــ وتتمثل الأهمية ايضا في محاولة بلورة منظومة ثقافية وطنية معاصرة وشاملة من شأنها الحفاظ على وحدة البلاد وتعزيز تماسك النسيج الاجتماعي، فضلا عن وقوفها حائلا امام تحقيق الطموحات الثقافية الضيقة للقوى الفاعلة في المشهد السياسي والاجتماعي .
4ــ ومع ان بعضا من المضامين الثقافية لهذه الستراتيجية قد جرى تداولها في بعض الكتب والدوريات والمحافل ، الا ان النظر الى العامل الثقافي بوصفه مدخلا لحل الأزمات السياسية والاجتماعية لم تطرق مسامع الباحث ، وبذا فإن البحث سيشكل اضافة مهمة الى الأدبيات الثقافية والسياسية بهذا الشأن .
5ــ ان الوعي الجماهيري بحجم المخاطر في العراق لم يتبلور بفعل عوامل ثقافية برغم انطواء المنظومة الثقافية السائدة على قيم وطنية وانسانية ، الا اننا لم نلحظ حضورا ايجابيا فاعلا لتلك القيم في المفترقات الحاسمة التي أثارتها الظاهرة الطائفية، وذلك مدعاة للتساؤل عن مدى فاعلية القيم الراهنة بالتأثير في المجتمع ، والحقيقة ان الوعي الجماهيري الذي تمكن لاحقا من ادراك مخاطر المؤامرة الطائفية تشكل بفعل التجربة والاكتواء بنيران الفتنة ، وانه لأمر خطير ان ينحصر تشكل الوعي بالتجربة ، وبذا فإن الستراتيجية التي يقترحها هذا البحث في حال تنفيذها ونجاحها قد تسهم في تجنيب العراقيين المآسي التي نتجت عن الولاءات الطائفية والدينية والعرقية والقبلية لحساب ولاء وطني هو بالمجمل حصيلة مشروع الثقافة الوطنية وليس اي عامل آخر ، وبهذا تكمن الأهمية المجتمعية لهذه الستراتيجية.
7ــ واذا كانت الحالة الثقافية العربية قد كشفت على حد تعبير العلّامة عبد الله بن بيّه الخبير في المجمع الفقهي العالمي عن ( العجز عن اقتراح مشروع ثقافي حضاري شامل يتسلم زمام المبادرة التاريخية، يجوز إجماع العرب ويوحد قواهم أمام تحديات القرن القادم) ، فإن هذا البحث الذي يضع خطوة في الرد على هذا العجز ، ويتطلع ليكون مشروعا ثقافيا شاملا بالتكامل مع الرؤى والاضافات والتعديلات التي يضيفها المعنيون بالشأن الثقافي عليه .
ثالثا ــ ماذا نريد ؟
يرمي البحث الى تحقيق الهدف الرئيس المتمثل بــ ( اعداد ستراتيجية مقترحة لإشاعة ثقافة معاصرة لدى المجتمع العراقي .) ولكي يتسنى اعداد هذه الستراتيجية لابد من تحقيق الأهداف الفرعية الآتية :
1ــ صياغة اطار عام لمضمون ثقافي مستنير ،2 ــ تحديد الجهات التي من شأنها الإشراف على هذه الستراتيجية وتنفيذها وتقييم مراحلها ،3 ــ تحديد الطرق والأدوات التي يستعان بها لتنفيذ الستراتيجية الثقافية المقترحة ،4 ــ الكشف عن التحديات والعقبات التي يمكن ان تعترض على طبيعة المضمون وآليات تنفيذه ،5 ــ تحديد متطلبات وآليات تنفيذ المشروع القانونية والمالية والتقييمية.  
رابعا ــ المنهجية المعتمدة  
يندرج هذا البحث ضمن البحوث الوصفية بحسب نوعه ، ذلك ان هذا النوع من البحوث يعنى ( بدراسة الأحداث والظواهر والمواقف والآراء وتحليلها وتفسيرها بغية الوصول الى استنتاجات مفيدة  لتصحيح  الواقع او تحديثه او استكماله او تطويره بما يؤدي الى فهم للحاضر يستهدف توجيه المستقبل ). ومن بين النماذج الخمسة التي حددها هوتيني للبحوث الوصفية اعتمد البحث على نموذج دراسة الحالة الذي يعد أحد تكنيكات البحوث الكيفية ، لكون البحث يهتم بدراسة الظاهرة الثقافية العراقية واقتراح ستراتيجية ثقافية بديلا للأساليب العشوائية التي يجري التعامل بها في التنشئة الثقافية ، وفي مثل هكذا ظاهرة يغدو التفسير الكيفي لواقعها أكثر ملاءمة لهذا البحث من التفسيرات الاخرى ، كما ان الخصائص الأساسية التي يتسم بها تكنيك دراسة الحالة يتوافق تماما مع الآليات المنهجية المتبعة في هذا البحث ، اذ تتركز هذه الخصائص في التركيز والوصف والاستقراء والاستكشاف .
وبما ان الظاهرة الثقافية العراقية لا تنطوي على بيانات واضحة بدقة ما يجعل البحث فيها معتمدا بالدرجة الأساس على الادبيات التي تناولتها والملاحظات التي يسجلها الباحث عن الظاهرة ومراقبة كيفيات تكوينها ، بخاصة ان الباحث كان قد شغل خلال المدة التي أعقبت الاحتلال الامريكي مسؤوليات اعلامية عديدة ما جعله على دراية بالكثير من حيثيات هذه الظاهرة ، وبالتالي فإن الاعتماد على دراسة الحالة يقود الى الحصول على بيانات وصفية وتفسيرية شاملة لأسباب الظاهرة على العكس من المناهج البحثية الاخرى التي يتعذر عليها بيان كافة أسباب الظاهرة  ، فضلا عن تزويد الباحث بتصورات تعينه على بناء الستراتيجية التي ينشدها .
خامسا ــ المصطلحات ذات العلاقة بالبحث
يستند البحث الى اربعة مصطلحات أساسية هي :
1 ــ الستراتيجية
حظي مصطلح الستراتيجية بتعريفات عديدة ومن منظورات مختلفة عسكرية وادارية وسياسية واقتصادية وغيرها  ، وان أقرب تلك التعريفات لهذا البحث ، هو التعريف الذي ينص على ( أن الستراتيجية هي مجموعة السياسات والأساليب والخطط والمناهج المتبعة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة في أقل وقت ممكن وأيسر جهد مبذول).
2 ــ المعاصرة
تعني كلمة (عاصر) في اللغة العربية الوجود في الزمن ذاته ، وعندما نقول شاعر معاصر اي يعيش في عصرنا ، والانسان المعاصر يعني الانسان الذي يعيش الآن ، وبهذا فالمعاصرة في اللغة تشير الى معايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة وتسخيرها لخدمة الإنسان ورقيّه ، ولكن ذلك لا يكشف بأي وجه من الوجوه عن قطيعة مع الماضي البتة ، وهي بهذا البحث لا تتنكر لتراث الامة المادي والروحي ، بل نريد بالمعاصرة ما ذهب اليه حسن حنفي بقوله ( ان المعاصرة تعني مجابهة مشكلات الواقع، والدخول فيها، ومواجهتها مواجهة مباشرة، ورؤية الواقع والإحساس به، والنظر إلى ما تحت الأقدام. وتعني أن يعيش الإنسان أحداث الزمن، وأن يعرف روح العصر، وأن يرفض جميع أشكال الزيف لتغليف الوعي القومي وتعميته ودفعه نحو الغربة والاغتراب .... وانها لا تعني استسلاماً للأمر الواقع ، بل بحث في جذوره التاريخية وأبنيته الحاضرة ومتغيراته المستقبلية ).
3 ــ الأصالة
يذهب المعنى اللغوي لمفردة ( أصالة ) الى الجودة والعراقة والابتكار ، فأصالة الرأي جودته ، وأصالة النسب عراقته ، وأصالة الاسلوب ابتكاره ، وبذلك لا تحيل هذه المفردة في القاموس العربي الى الانغلاق على الذات وعدم الانفتاح على الغير كما حاولت ان توحي به بعض المذاهب الفكرية العربية وبخاصة منها الاسلامية ، واستنادا الى ذلك أوجد بعض المفكرين مفهوما للأصالة لا يقطع صلة الحاضر والماضي بالمستقبل ، وهو المفهوم الذي يعطي دفعا للواقع العربي باتجاه مواكبة الآخر بما حققه من منجز حضاري وليس مغايرته بما تنطوي عليه هذه المغايرة من تعميق الهوة بين العالم العربي والاسلامي والعالم المتقدم ، ذلك ان الأصالة بهذه المعاني تسهم في معالجة مشكلات الواقع بمنظور واقعي وعقلاني ومنفتح .
 ويرى الباحث ان مصطلح الأصالة الذي شاع استخدامه خلال أربعينات القرن الماضي عني به القدرة على الإبداع والابتكار في إنتاج أدوات أو مخترعات أو أية أعمال فنية وأدبية ، وبعبارة أخرى هي امتياز الشيء أو الشخص على غيره بصفات جديدة صادرة عنه  .
4 ــ الثقافة المستنيرة
ورد في معجم المعاني الجامع ان كلمة (مستنير) هي اسم فاعل من (استنار)،بمعنى ضاء ، استنار برأيه استمد منه النور ، واستنار عقله تنّور ، وتمتع بعقل مستنير بمعنى تمتع بعقل واع وناقد ، واستنار الشعب اي صار واعيا مثقفا.
وبذا فأن الثقافة المستنيرة في أبسط معانيها هي الكل المركب من العناصر الثقافية التي يكون بمقدورها نقل المجتمع من عتمة التخلف الى نور العلم بما يجعل منه مجتمعا واعيا وناقدا لما ينطوي عليه ماضيه وحاضره ومستقبله ، وهي بهذا تفترض تصنيفا جديدا للثقافة بحصرها بين ثقافة متخلفة واخرى مستنيرة ، وما الحركات العلمية  والفكرية على مر التاريخ الا محاولات لنقل المجتمعات من واقعها المتخلف الى آخر متقدم يشبع احتياجاتها الاساسية ويحقق لها الرفاهية.