القسم الأول
"لطالما تخيّلتُ أنّ الجنّة مكتبة"
خورخي لويس بورخس
الكتاب هو جنّة اللذة الفردوسية وتوأم العوالم الساحرة التي لاتحدّها حدود جغرافية أو ذهنية ، ولا أظنّ أن كاتباً أوعالماً أو أي مشتغل في أي حقل معرفي لم يمسّه منذ أن كان طفلاً ذلك المسّ الطهراني المقترن بهَوَس عشق القراءة والكتاب ، وقد يحزن المرء وينتابه الكدر والغم إذا ألمّت به ضائقة مالية أو صحية ، ولكن لا أحسب همّ المرء الشغوف بالكتاب إلا أعظم بكثير وعصياً على المقارنة مع أيّ همّ سواه فيما لو فقد شغفه بالكتاب ، وربما يناظر فقدان الشغف بالقراءة والكتاب حالة فقدان حبيب يسكن شغاف القلب .
أتاحت لي ترجمتي للسيرة الذاتية للكاتب - الفيلسوف كولن ويلسون ملامسة عوالم فكرية وفلسفية غير مطروقة لي ، وقد أبانت لي سيرته حجم الثراء المعرفي الذي يحتكم إليه الرجل ، ويعود جلّ ذلك الثراء لقراءاته المتعددة وعشقه للكتاب وهو لمّا يزل يافعاً بعد ، وتزخر السيرة الذاتية بعناوين كثيرة لكتب أشار إليها الكاتب في ثنايا حديثه عن وقائع حياتية خاصة به ، وأراني اليوم مقتنعة بما صرّح به ويلسون بشأن جدب الحياة الثقافية البريطانية وافتقارها إلى تناول عالم الأفكار على عكس الثقافة الفرنسية أو الألمانية ؛ الأمر الذي دفعني إلى النظر في إمكانية ترجمة أعمال أخرى لِـ ( ويلسون ) ، وبعد إكمالي ترجمة سيرته الذاتية لم أجد كتاباً غير مترجم للكاتب يستوفي كل المتطلبات الخاصة بالترجمة مثل كتابه ( الكتب في حياتي The Books in My Life ) المنشور عام 1998 وبخاصة أن الكثيرين من الكُتّاب المرموقين قد كتبوا كتباً رائعة بشأن دور الكتب في حياتهم ومن هؤلاء ( هنري ميلر ) الذي يستشهد به ويلسون في الفصل الأول من كتابه ، وجدير بالتنويه أن كتاب " ميلر" هذا نشرته دار المدى مترجماً عام 2012 .
لطالما قيل أننا لسنا سوى نتاج تجاربنا المتراكمة ، ومن الطبيعي أن يختصّ الكتاب والقراءة بحيّز مهم في تلك التجارب ، وفي ضوء هذه الفكرة يمكن النظر إلى كتاب "الكتب في حياتي" الذي كتبه الكاتب الراحل كولن ويلسون : يحكي الكاتب في كتابه هذا ( الذي يعدّ جزءا مكملاً لسيرته الذاتية ) عن الأعمال التي شكّلت بناءه الذهني وتوجهاته الفلسفية منذ أن كان صبياً يافعاً وهو المعروف بنهمه المبكر للقراءة ؛ فقد حوى منزله في كورنوال مايزيد على الثلاثين ألف مجلد ( إلى جانب الآلاف من الإسطوانات الموسيقية ) ، وقد سرد الرجل في الفصل الافتتاحي الأول حكاية بداية عشقه للكتاب حتى فاضت جدران منزله بها وصارت "مصدّات للشمس" على حسب تعبير زوجته !! . عانى ويلسون حيرة عظمى بشأن الكتب التي يعتزم الحديث عنها في كتابه هذا - وهي حيرة لابد عاناها كل من تصدّى لكتابة كتاب يحكي فيه عن الكتب التي أثّرت في بواكير تشكّل حياته الذهنية والإبداعية، وتتعاظم الحيرة فيما لو كان الكاتب متفرّغاً للكتابة والكتاب وعالم الأفكار اللصيق بهما مثل التوائم السيامية ، وقد تحسّستُ في مواضع عدة من الترجمة مدى الحيرة التي ألمّت بالرجل وهو ينتقي الكتب التي شاء الحديث عنها في كتابه هذا وأظنه اختار في نهاية الأمر نخبة من الكتب التي تشكّل توليفة متباينة أراد بها جعل القارئ يدرك الطيف الواسع لانشغالاته المعرفية .
يتبع