TOP

جريدة المدى > عام > الشغف بالكتب

الشغف بالكتب

نشر في: 5 إبريل, 2016: 12:01 ص

سعد محمد رحيمبعض الكتب تغيّر حياتنا بشكل عميق، مثل الأحداث الاستثنائية والصادمة والكبيرة تماماً، أو ربما أكثر من ذلك. تفعل فعلها في عقولنا ونفوسنا، في قناعاتنا ومزاجنا. كما لو أننا بعد قراءتها نصحو على أنفسنا، ونُفاجأ بمنعطف غير متوقع، يستدرجنا إلى م

سعد محمد رحيم

بعض الكتب تغيّر حياتنا بشكل عميق، مثل الأحداث الاستثنائية والصادمة والكبيرة تماماً، أو ربما أكثر من ذلك. تفعل فعلها في عقولنا ونفوسنا، في قناعاتنا ومزاجنا. كما لو أننا بعد قراءتها نصحو على أنفسنا، ونُفاجأ بمنعطف غير متوقع، يستدرجنا إلى مسار مختلف. يغرينا بأرض غير أرضنا وعالم غير عالمنا، وأفق لم نألفه من قبل.
كل كتاب نقرأه يُحدث في دواخلنا تغيراً بقدر ما وإن كان ضئيلاً، غير أن هناك كتباً لها فعل الزلزال فينا؛ يجعلنا نؤمن بشيء ما. أو يفتك بإيماننا بشيء ما اعتقدناه راسخاً إلى الأبد. يضعنا على عتبة مغايرة، ويحوِّل أقدارنا.
   نحن نقرأ بحثاً عن أجوبة على أسئلة تقلقنا، بحثاً عمّا يُسكِن هواجسنا المضطربة؛ .. وقد ترانا ننشد المسرّة واللذة فيما نقرأ. وربما نروم من خلال القراءة خوض تجربة حياة لم تتح لنا الحياة الحقيقية خوضها. نسافر إلى بقاع لم نزرها، ونقابل أناساً من أمكنة وأزمنة أخرى، ونتورط بمغامرات لا نمتلك الشجاعة الكافية كي نمارسها في واقعنا اليومي الرتيب. وفي النهاية يخسر أولئك الذين لا يقرأون، أو لا يعرفون كيف يقرأون، فرص حيوات نادرة توفرها القراءة وحدها.
   القراءة حالة حب، أو قل أن كتباً بعينها تمنحنا ذلك الشعور الفاتن الذي ينتاب الواقع في الحب لتوِّه؛ الشعور بأن روحك راحت تعانق روحاً أخرى في بُحران من النشوة والعذوبة والنقاء والسمو. في النور المسحور حيث يكتسي العالم وأشياؤه بألوان فريدة باهرة. وحيث تتبدّل عندك مفاهيم الزمان والمكان والكينونة، أو قل معنى الحياة والموت. كأنك في أثناء القراءة، وبعد القراءة، في خلق جديد.
     نتلمس الشغف بالكتب عند أولئك الذين يمتلئون بالغبطة كلما حصلوا على كتاب جديد. يتحسسون، بوَلَه عاشق، جلده. يقلِّبون أوراقه برقة وحنان. ويشمّون، وأرواحهم ترتعش، رائحته المسكرة، الغامضة. ويفعمهم ملمسه ومرأى سطوره بوعود من المسرّات.. تلك هي الكتب؛ تنتهك براءتنا، وتفقدنا عذريتنا الوجودية وتلقينا في خضم هذا العالم.
   الولع بالقراءة يقودك إلى هوس اقتناء الكتب وامتلاكها. وهذا يبدأ عند معظمنا في وقت مبكر. يأخذ الفتى الصغير ( أو الفتاة الصغيرة ) بجمع مصروفه اليومي من أجل شراء كتاب أعجبه عنوانه أو صورة غلافه أو اسم مؤلفه. يذهب إلى المكتبة ويرجع بكتابه مباشرة إلى البيت ليحظى بخلوة هادئة معه. ثم يتحول الأمر إلى عادة. بعدئذ تتجمع الكتب؛ في صندوق أولٍ، وصندوق ثانٍ، وتحت السرير، وفوق المناضد والكراسي، ثم على رفوف مكتبة بيتية. ويعلم كل مالك مكتبة في منزله معاناة الانتقال إلى منزل آخر مع جبل من الكتب. تُباغت بالحجم المهول لكل تلك الكائنات التي جمعتها. وتفكر بمقدار ما أنفقت، في سبيلها، من نقود تشكل ثروة صغيرة أو كبيرة. وكلنا يعلم أن شراء الكتب استثمار خاسر بالمعايير المادية، في معظم الأحوال. لكنه، في النهاية، يعدّ استثمار الحياة الأعظم لمن يعرف قيمة هذا الفردوس الصغير الذي خلقه في منزله. يلوذ به كلما ضاقت به السبل، ويأوي إليه كلما انشرحت نفسه وأحس بمذاق الحياة.
   تغدو العلاقة مع الكتب عضوية، كأنك إزاء مخلوقات من لحم ودم، مخلوقات تتنفس وتحس.. تعاني الإهمال، وتفرح كالطفل حين تجد الاهتمام، وتتحدث إليك.. " يبدو لي أن الكتب المكوّمة إلى جانب سريري تقرأ نفسها لي بصوت عال في أثناء نومي" يكتب البرتو مانغويل في؛ (يوميات القراءة/ ترجمة عباس المفرجي.. منشورات المدى 2008 ).. وفي مكان آخر من الكتاب ذاته يقول؛ "الكتب التي أقرأها ليلاً في فراشي هي غير الكتب التي صنفتها في النهار.. الأولى تتطفل عليّ، قبل أن يغلبني النعاس، بزمانها وبطولها وبإيقاع القص الخاص بها.. والأخرى خاضعة لمشيئتي الخاصة في الترتيب والفرز، ومنقادة لي بشكل شبه أعمى "في بعض الأحيان يخطر لها أن تتمرد، فأبادر عندئذ إلى تغيير موقعها على الرف ".
   إذن أنا أتحدث عن الكتب الورقية، لا تلك المخزونة في حافظة الكومبيوتر. وأحسب أنه مع انتهاء عصر الكتاب الورقي في يوم ما، كما ينبئنا بعض المتشائمين، يكون الإنسان قد فقد شيئاً ثميناً، لا يعوّض على الإطلاق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. صالح الرزوق

    لا يمكن للكتاب المطبوع الا ان يختفي كما اختفت الرقم و المخطوطات على البردي و جلد الماعز. او جلد الإبل. انها سنة الكون، كما اختفت طوابع البريد و الانتقال بواسطة الجياد و الهوادج. و عما قريب ستختفي أشياء كثيرة منها النادل الإنسان و ستنتشر الروبوتات لتقدم لن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram