مثل أشياء كثيرة تستثير الأمل وتحثّ على الحياة، كان المثقفون وشرائح أخرى، لها موعدٌ شبه دائم مع معارض الكتاب التي كانت تزخر بالجديد من الكتب والفعاليات التي تتيح لروّادها التعرّف المباشر على كتّابها والمفكرين البارزين والشخصيات المؤثرة في الحياة العام
مثل أشياء كثيرة تستثير الأمل وتحثّ على الحياة، كان المثقفون وشرائح أخرى، لها موعدٌ شبه دائم مع معارض الكتاب التي كانت تزخر بالجديد من الكتب والفعاليات التي تتيح لروّادها التعرّف المباشر على كتّابها والمفكرين البارزين والشخصيات المؤثرة في الحياة العامة من الأدباء والشعراء والفنانين وقادة الرأي.
ولم تكن المعارض في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، على قلّة الدول التي تنتظم فيها، مناسبة لاقتناء أحدث الإصدارات فحسب، بل أيضاً مصدراً للاغتناء بما تتضمنه من فعاليات فكرية وثقافية وفنية لروّاد الثقافة والفكر والفنون في تلك المرحلة التاريخية الصاعدة.
ما يميز معارض تلك الأزمنة أنها كانت جسوراً لتعزيز الأواصر الثقافية بين البلدان العربية، وتجاوز الممنوعات أو أوجه القصور التي تحدّ من حركة الكتاب وتداوله بين القرّاء في بلدانهم المتباعدة. والمعارض تلك كانت تلتزم معايير مهنية عالية، وتكاد تكرّس ضوابط أخلاقية في التعامل مع الكتاب ودورته الثلاثية التي تربط بين الكاتب – المؤلف والناشر والقارئ المتلقي. ورغم أنها كانت تعتمد القواعد التي تؤخذ بها في التجارة، إلا أن العاملين في قطاعها "التجاري" لم يكونوا مجرد أصحاب رؤوس أموال يتوخون الربح والفائدة التجارية، بل كانوا في الغالب مرجعيات ثقافية، هم أنفسهم، كتّاباً أو أدباء وشعراء أو نقاداً ومفكرين، واختيارهم العمل الكتبي، في عالم النشر وحتى المكتبات وأحياناً في قطاع الطباعة، إنما كان استمراراً لنشاطهم الإبداعي، وقد يكون تجليّاً لنزعاتٍ فنية أو فكرية أو مدارس حداثوية.
وخلافاً لما صار ظاهرة في أيامنا هذه تعجّ بها معارض الكتب، كانت عمليات تزوير الكتب وقرصنتها تكاد تكون من المحّرمات الثقافية، لأنها كانت تخدش رصيد المرجعيات الثقافية المعنية بالنشر، وليس بمعزل عن قلة عدد دور النشر والناشرين، وربما للأسعار المتهاودة التي تظل في متناول المثقف والقارئ محدود الدخل. وفي هذا الجانب المتعلق بالتزوير (الاستنساخ) المرفوض في أخلاقيات الناشر والكتبي، كان التسامح بممارسته مقبولاً حين يتعذر الحصول على الكتاب واستيراده رسمياً، لحظره نتيجة سياسات الأنظمة القمعية الكارهة للثقافة والفكر. وكانت المكتبات التي تؤمِّن الكتاب ، حتى بهذه الوسيلة الشاذة تحتل مكانةً ودوراً إيجابياً بين المثقفين والقراء. لكنّ المعارض يومذاك كانت تتميز بضم الإصدارات الحديثة، وتخلو من "تحايلات" هذه الأيام حيث يعاد تسويق مؤلفاتٍ قديمة بعناوين وأغلفة جديدة " لإيهام " القارئ والإيحاء له بأن الكتاب المُتَحَايل عليه جديد تأليفاً أو ترجمة !
في كل معرض سنوي يتألق الكتّاب والأدباء والشعراء في ندواتٍ وقراءاتٍ شعرية ونقديةٍ. وغالباً ما كانت إدارة المعارض تحرص على أن لا يتكرر المدعوون كل عام. كما كانت تهتم بتجنب تكرار الموضوعات ذاتها في الندوات التي تقيمها ، مما أكسبها مكانة خاصة في الحياة الثقافية وبين المثقفين وجمهور القراء ، المتشوقين للتواصل مع رموزهم الثقافية والفكرية والفنية الذين ظل حضورهم لفترة طويلة يقتصر على فعاليات معارض الكتاب والمهرجانات الثقافية والفنية في زمن غياب الفضائيات ووسائل الاتصال الاجتماعي وحوامل الشبكة العنكبوتية.
أول معرضٍ للكتاب شهدته بغداد كان عام ١٩٣٨ ، أقامته مديرية الآثار العامة لعرض المخطوطات العربية في متحف الآثار الإسلامية في خان مرجان. وأقام المعهد الثقافي البريطاني عام ١٩٤٧معرضاً للكتب الإنكليزية الحديثة في العلوم والآداب والفنون، ثم في عام ١٩٥٤ أقام معرضاً للكتب الإنكليزية المتخصصة بالموضوعات العراقية منذ بدء الطباعة حتى عشرينيات القرن الماضي. وأشهر معرضٍ للكتاب العراقي أقامته مكتبة الخلاني العامة باسم معرض الكتاب العراقي في نيسان من عام ١٩٥٥. ومن اوائل معارض الكتاب في مصر معرض أقيم عام 1946. واحتفظت مصر على مدى السنوات التالية بموقعها الريادي في هذا المجال من حيث الأهمية والفعالية والتأثير.
كان القارئ يومذاك يجد بيسر مبتغاه من الكتب، وفقاً لاهتماماته والأنواع الأدبية والفكرية التي تنسجم مع ميوله واتجاهاته. فلم تكن المعارض سوق عكاظ يتيه في أروقته القارئ، بل هو يعرف سلفاً دار النشر التي تهتمّ بالرواية أو تلك التي تهتم بالشعر أو بالنقد وسواها من الأنواع الأدبية والمدارس الفكرية . ودار النشر كانت بمعنىً معيّن دليله للاختيار، وناقده الذي لا يُفسد عليه ذائقته أو يضعه في متاهة خادعة تضيّع له وقته وما اقتصده من ميزانيته للكتاب.
خلال التحضير لمعرض أربيل الدولي للكتاب لهذا العام، ظل القلق يحاصر إدارة المعرض من مغامرة عقده في ظرفٍ يتميز بعسر مالي وبقايا رهبة من معارك دحر داعش وتحرير ما احتله من أراضٍ واستلبه من حرية مواطنيها.
كان القلق مزدوجاً، احتمال تردد دور النشر من المشاركة ، وضعف الإقبال على المعرض.
القلق الأول صار حرجاً بسبب الاعتذار المسبق من مئة ناشر تقدموا بطلب المشاركة دون أن تتاح لهم الفرصة، وقلق الإقبال من المواطنين صار خجلاً من عدم الثقة بوعي المواطن الذي ضجت الأجنحة بحركته وانهماكه باختيار كتبه وحضوره فعاليات المعرض وندواته على مدار ساعات النهار.!
أفعمت روحي البهجة التي أضفتها جموع الشبيبة وهي تقتحم بوابة المعرض وتتلون بهم ممراته وواجهات أجنحته. ولم يطّلّ اليوم الثاني حتى صار المشهد يلتمّ على نفسه مبهوراً بزقزقة مواكب أطفال الابتدائيات وهم يتدافعون ابتهاجاً، يضفون بضحكاتهم سحراً على سمفونية الكتب وهي تموّج أثير المعرض ومداراته.
لم أستطع تبرير تساؤلات الفضائيات والإعلاميين: لماذا لا تنظّمون مثل هذا المعرض في بغداد؟
حاولنا بكلّ ما لدينا من حرصٍ وتأثير، ولكن "لا رأي لمن لا يُطاع"!
ولا آذان لكاره للثقافة، أعمى البصر والبصيرة !