TOP

جريدة المدى > عام > الحياة في غلطتها..الشعر بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي

الحياة في غلطتها..الشعر بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي

نشر في: 9 إبريل, 2016: 12:01 ص

ديوان "الحياة في غلطتها" الصادر في بغداد عام 2015 للشاعر زعيم نصار الذي آثر ان يجنسه بوصفه "قصائد" هو في حقيقة الأمر قصيدة واحدة مطولة موزعة على ثلاث نسخ أو محطات ما يدفعنا إلى وصفه بـ "الديوان / القصيدة"، نظراً لوحدة الرؤيا الفلسفية والشعرية التي تت

ديوان "الحياة في غلطتها" الصادر في بغداد عام 2015 للشاعر زعيم نصار الذي آثر ان يجنسه بوصفه "قصائد" هو في حقيقة الأمر قصيدة واحدة مطولة موزعة على ثلاث نسخ أو محطات ما يدفعنا إلى وصفه بـ "الديوان / القصيدة"، نظراً لوحدة الرؤيا الفلسفية والشعرية التي تتحكم في التجربة الشعرية، وهي رؤيا ترتبط، إلى حد كبير، بموقف ما بعد الحداثة في الأدب والفن، وبشكل خاص في الموقف من العوالم الافتراضية  Virtual Reality  والوهمية التي تجعل الحقيقة غائبة أو زلقة لا يمكن الإمساك بها، مهما قلبنا مستوياتها وطبقاتها المعرفية وجذورها الاركيولوجية والجينالوجية. وهذا الموقف يتجاوب مع طروحات الفيلسوف الفرنسي جان بودريار عن "النسخ الشبيهة والمحاكاة"، ومفهومه عن الواقع الفائق أو الهايبر Hyper Reality   والذي نفى فيه امكانية الحصول على نسخة مطابقة للواقع عن طريق المحاكاة منطلقا من مقولة تنسب للملك سليمان تقول: "ان النسخة الشبيهة لا تخفي الحقيقي أبداً، بل ان الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي. ان النسخة الشبيهة هي  حقيقية." (1)
ومما له دلالة ان يعمد الشاعر زعيم نصار إلى اعتماد مقولة الملك سليمان هذه عتبة نصية يستهل بها ديوانه (ص 5)، كما انه سبق وان عالج هذه الثيمة الفلسفية ما بعد الحداثية في مقالة له تحمل عنوان "الواقع الفائق للنسخة الشبيهة: قراءة في صور فوتوغرافية لجان بودريار. " نشرت في إحدى الصحف المحلية. (2)
وهذه المقالة تضيء فضاء التجربة الشعرية لهذا الديوان فلسفياً وفنياً إلى حد كبير، حيث وزع الشاعر ديوانه إلى ثلاثة أقسام فرعية، أطلق على كل قسم منها بالنسخة مبتدئاً من الأعلى الى الأسفل بطريقة تنازلية: نسخة ثالثة، نسخة ثانية، نسخة أولى، تجاوبا مع العتبة النصية ورؤيا جان بودريار الفلسفية. ومعنى هذا ان الشاعر كان يعي، فلسفيا، اللعبة الشعرية، والرؤيوية معاً في تجربة الديوان. ويقول زعيم نصار شارحاً رؤيا بودريار:
" لم تعد النَسْخَة - الشَبيهة صورة في المرآة عن أصل ما، وبالتالي إشارة عنه، وتعدى أمر النَسْخَة - الشَبيهة أيضاً أنها استقلت وانفصلت عن أي أصل، وكذلك فإنها لم تعد تشير الى "أصل" موجود، وبذا صارت إشارة الى اختفاء الوجود نفسه. وهكذا، وصل الأمر الى أن الواقع نفسه صار يُصنع كلياً من تناسل تلك النُسَخ - الشَبيهة، التي تنفي وجود الواقع. " (3)
والواقع ان هذا الموقف الفلسفي الذي يطرحه الشاعر يتصادى مع الكثير من المواقف الفلسفية المماثلة منذ مفهوم أرسطو عن الصورة والمثال، مروراً بكانت وكروشه وبرغسون ومفهوم دوسوسيرعن الدال والمدلول، وكون الاسم لا يدل على الشيء وإنما يدل على صورة متخيلة له، وانتهاءً بمنظور نظرية الشواش أو الفوضى Chaoas ومنظور الفيلسوف جاك ديريدا التفكيكي الذي ينفي وجود أي أصل متعال للحقيقة، وبالتالي فإن اية قراءة هي إساءة قراءة    Misreading  تتطلب قراءات جديدة هي، الأخرى تمثل إساءة قراءة أخرى أو قراءة خاطئة أيضاً.
لا أريد ان أوحي هنا ان الديوان يتخلى عن شعريته وعفويته، ويتحول إلى مقولة ذهنية تجريدية تدافع عن مقولة فلسفية ما بعد حداثية، ما قد يضع الديوان تحت لافتة مقولة أدب "القضية"Thesis.بل يمكن القول ان الديوان / القصيدة يتخذ له من هذه المقولة ما بعد – الحداثية – مظلة له ليس الّا، دون الانغماس بها ذهنياً وتجريدياً وفلسفياً إلى درجة مسرفة. فالديوان /القصيدة هو موازنة معقولة بين ما هو فلسفي وشعري.  بل يمكن لي  الزعم هنا ان الشعري يتغلب إلى حد كبير على الهم الفلسفي نفسه، في البنية الشعرية التي تتخذ لها معادلات موضوعية حسية، تتشكل أساساً من مشاهد مرئية وبصرية وسمعية من الواقع السياسي العراقي في شكل لوحات واستعارات ورموز وأقنعة دالة تدين كل ما هو قبيح وقامع ومشوه في "جحيم" الواقع العراقي في ظل دكتاتورية النظام السابق، ما يجعلني أشبّه حركة الديوان الداخلية و"نسخة " الثلاث وحركته الخفية والمكشوفة بـقصيدة "فصل في الجحيم" (4) للشاعر الفرنسي ارثور  رامبو.
اذ يمكن النظر إلى هذا الديوان / القصيدة بوصفه نسخة عراقية عن جحيم رامبو، وربما أيضا من جحيم دانتي وقبله جحيم أبي العلاء المعري في "رسالة الغفران ". فهنا أيضا رحلة افتراضية، في الزمان والمكان، تتهجس الجوانب المتنوعة لمأساة الفرد العراقي في ظل نظام الاستبداد والقمع في العهد السابق، خاصة وان القصائد مؤرخة بين سنوات  1986- 1991.
وديوان زعيم نصار هذا، مثل "فصل في الجحيم" لرامبو، قصيدة اعترافية ولون من السيرة الذاتية لذات الشاعر الثانية أو قناعه وتجواله بين الأزمنة والأمكنة العراقية المفجوعة بمظاهر الموت والخوف والقمع، حيث تحلق غربان الشر وذئاب الليل، وتتحول الحروب وقذائف القنابل إلى لازمة حياتية يومية لحياة الإنسان العراقي. ان جحيم  زعيم نصار هو باستحقاق جحيم الوجع العراقي الفريد، وليس مجرد جحيم روحي ووجودي أونطولوجي Ontological   يكشف عن معاناة حسية، تحوّل المشهد العراقي إلى مدفن كبير تصب فيه كل الحيوات متمثلاً بمدفن "وادي السلام "، ومنها حياة الشاعر الذي ينظر أن تختتم حياته في هذه المقبرة أيضا، أسوةً بالآلاف من العراقيين الذين سبقوه:
"في الجنوب من هذا الجبل، في الجنوب مني ينتشر البياض، كسائر الأكفان، أستعيد المصباح لأرى طريقي، أقطف عشبةً، واحلم بالخلود. " (5)
فالموت والحرب والخراب هي مظلة الجحيم العراقي الآيل إلى الاندثار والسقوط في مقبرة "وادي السلام ". وهذا ما تكشف عنه نهاية الديوان، في ضربة شعرية تذكرنا أيضا بخواتيم رامبو الحياتية في "فصل في الجحيم": "تحملني اللحظة في ألم فظيع، بالقرب مني سأهوي إلى الوادي، وادي السلام. " (6)
الديوان سيرة حياة مفعمة بالألم والمكابدة والتمزق والجنون، وتكشف أيضا عن موقف فلسفي واونطولجي تجاه الحياة، وعن تمزق روحي عميق نابع من الإحساس بان الحياة هي غلطة، لكنها ليست دائما بالغلطة الميتافيزيقية لسفر خروج آدم من الجنة، بل هي سلسلة من الاغاليط والأخطاء التي تزخر بها حياة الفرد العراقي. اذ يستهل الشاعر ديوانه بالحديث عن حياته المحتشدة بالأخطاء وعن سر "الغلطة " التي وشمت مصيره منذ ثلاثين سنه : "على الأرجح السنوات التي مرت في الطريق المعلقة فوق الهاوية، كانت محشوة بالأخطاء، لقد زهوت بها، ربما لأنها اخترعتني شاهدا عن حروب لن تنتهي. " (7)
وهكذا يبدأ الشاعر – تماما مثلما فعل رامبو في "فصل في الجحيم" إعادة كتابة فصول أولى من سيرته الذاتية من خلال إشارات عن ولادة الشاعر في جوار النهر "حياة على جانب النهر" فضلا عن الأعوام الثلاثين التي كان قد قطعها آنذاك وتواريخ الأسرة والعائلة  قبل ان يخرج من المدينة، ليتسع بعدها سفر المعاناة الجماعية لشعب بكامله يكون فيه الشاعر شاهداً وراوياً ورائياً لعصر بكامله.
ترى هل كانت "النسخ الثلاث" التي استعارها الشاعر من الفيلسوف بودريارد والملك سليمان في تجربة الديوان تمثل نفياً فلسفياً ورؤيوياً لواقع عراقي معين وكشفاً عن عالم افتراضي آخر؟ شخصيا لا أظن ذلك. فالديوان لا يحمل هذه الحمولات العدمية – بالمفهوم الفلسفي – التي بشّر بها بودريارد وبعض مفكري ما بعد الحداثة، بل بالعكس ثمة يقينية تؤكد صورة الواقع الممزقة والمخربة، من خلال تراكم لصور الدمار والخراب والموت في المشهد العراقي، الذي يضج بما هو واقعي وأرضي وحسي، وليس مجرد عالم وهمي أو افتراضي، قابل للتشكل الاعتباطي والإيهامي. وهذا الحكم يبعد الديوان من ان يكون مجرد مقولة "أطروحة "فلسفية بشّر بها عدد من مفكري ما بعد الحداثة وفي مقدمتهم جان بورديارد. فالحياة العراقية بكل تفاصيلها السياسية والاجتماعية والانثروبولوجية حاضرة في الديوان بطريقة ترميزية وسوريالية أحياناً، ومن خلال سلسلة من الاستعارات والانزياحات  البلاغية واللسانية والأسلوبية الكثيفة التي تجعل الديوان / القصيدة عصيّاً على القارئ العادي بسبب المبالغة أحياناً في كثافة ما هو رمزي وسوريالي وأيقوني، ما  يتطلب قارئاً من نوع خاص يمتلك ما يسميه الناقد جوناثان كولر بالكفاءة الأدبية، وتحديداً في قراءة الشعر وتلقيه، وخاصة هذا الطراز من الشعر الذي يكتبه عدد من شعراء الحداثة ومنهم الشاعر زعيم نصار.
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات
عام

فاضل السلطاني شاعر الترحال والبحث عن الذات

شريف الشافعي كاتب وصحافي يأبى الشاعر العراقي فاضل السلطاني في تجربته الممتدة على مدار أكثر من 40 عاماً أن تسرقه غربته، فلا ينفك يؤسس تواصله الخاص مع أعماق الذات وفضاءات الخارج من خلال القصيدة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram