قبل سنوات ، قال مدير حسابات إحدى الدوائر لمديرها العام إن هناك نقصاً كبيراً في المبالغ المخصصة للدائرة وكان السبب كما يقول المحاسب هو المصرف الذي يُسلم الدوائر احيانا رزماً مالية ناقصة ...كان امام المدير العام خياران: الاول هو معاقبة مدير الحسابات وموظفيه وتغريمهم النقص الحاصل في المبلغ، او إخفاء آثار الحادث بطريقة مبتكرة لم تعد خافية على اغلب المسؤولين الكبار وهي ادراج المبلغ ضمن انفاقات الدائرة وهكذا كان فقد اختار المدير العام الخيار الثاني ..وبعد سنوات ، وحين بُلغت هيئة النزاهة بمعلومات حول وجود فساد في تلك الدائرة وباشرت التحقيق في القضية واستجواب العاملين فيها وبضمنهم مدير الحسابات والعاملين معه ، اعترفوا بما فعله المدير العام فاصبح مسؤولا عن الحادث ودفع ثمن فعلته وافعال اخرى ، فتم استبعاده بينما بقي مدير الحسابات في وظيفته وعاد ليمد جسورا جديدة مع المدير العام الجديد وكل مدير عام جديد يحل محله ..
تحدث مثل هذه القضايا التي تبدو بسيطة في ظاهرها في الأغلب، بل في جميع دوائر الدولة العراقية وتحمل تسمية ( الفساد الصغير) الذي يعني ممارسة معاملات فاسدة في الدائرة ومنها المنافع الثانوية ودفع الرشى وتسريع المعاملات وتوظيف الأقارب ويعد تافهاً برغم حدوث عمليات عدة منه وبشكل يومي ..بالمقابل هناك نوع آخر من الفساد يُطلق عليه (الفساد الكبير) وينتشر في أعلى دوائر السلطة السياسية حيث يقوم القابضون على القرار السياسي باستعمال سلطتهم ونفوذهم لتوطيد مكانتهم وتعزيز ثرواتهم بتفصيل السياسات والتشريعات على قياسهم ولمصلحتهم وهو أخطر انواع الفساد واكثرها تعقيداً وأثراً على المجتمعات والدول واكثرها صعوبة في المعالجة .
احيانا يشكو بعض المسؤولين من تشبثنا نحن الكُتّاب والصحفيون بانتقاد ومحاربة الفساد الكبير والمطالبة بمحاسبة حيتان الفساد لتنظيف المجتمع معززين رأيهم بأن الفساد الصغير هو الذي يقود الى الفساد الاكبر وان وجود موظفين صغار مرتشين ومحاسبين فاسدين يمكن ان يلوّث مسؤول الدائرة او يستدرجه لارتكاب الفساد وينطبق الحال على الوزارات والمؤسسات الحكومية الكبرى ..
لنعد الى الحادثة التي بدأت بها المقال ولنتساءل .. لو كان المدير العام نزيهاً وصارماً فهل سيختار الخيار الثاني، وهل سينجح موظف صغير في استدراجه ؟ وهل يرضى مسؤول سياسي ان يقوده احد صغار مؤسسته او حزبه الى منطقة مرفوضة بالنسبة إليه ..الأمر غير منطقي خاصة واننا ندرك جيدا كيف تربينا خلال السنوات الطويلة المرهقة ..بعضنا تربى على خوف تأصل في أعماقه من الرموز الكبيرة والبعض الآخر تربى على اتباع قدوة حسنة ، وفي الحالتين سيكون من السهل إذن ان يبتعد الصغار عن الفساد متى ما شعروا بالخوف من الكبار او وجدوا فيهم قدوة حسنة ..وإذن يمكننا ان نخرج بنتيجة واضحة وهي ان الكبار متى ما كانوا ملوثين سيكبر حجم الفساد، اما فساد الصغار فيمكن السيطرة عليه باستخدام رموز نزيهة او شديدة وصارمة.
قديماً قال أحد الفلاسفة العرب : " فساد الرعية بفساد الملوك ، وفساد الملوك باستيلاء حب المال والجاه " ، أما نحن- الكُتّاب والصحفيون- في العراق فنجد مَن يتهمنا بمهاجمة حيتان الفساد واغفال دور الفاسدين الصغار لأنهم كما تقول النظريات السياسية الحديثة : (يمكن ان يلوثوا المسؤول او يستدرجوه لارتكاب الفساد ) !!
الخيار الثاني
[post-views]
نشر في: 8 إبريل, 2016: 09:01 م