تقويض الدولة الشمولية في ٩ نيسان ٢٠٠٣، شكّل فرصة تاريخية لبناء دولة مدنية ديمقراطية دولة قانون ومؤسسات وحريات، فلأول مرة على مدى الذاكرة الشخصية، انهارت دولة بكلّ أركانها وتحولت الى خرائب وفضلات، يلتقط المارة والفضوليون ما تناثر من أوراقها وسجلاتها و
تقويض الدولة الشمولية في ٩ نيسان ٢٠٠٣، شكّل فرصة تاريخية لبناء دولة مدنية ديمقراطية دولة قانون ومؤسسات وحريات، فلأول مرة على مدى الذاكرة الشخصية، انهارت دولة بكلّ أركانها وتحولت الى خرائب وفضلات، يلتقط المارة والفضوليون ما تناثر من أوراقها وسجلاتها وذاكرتها من على قارعة الطريق أو في أقبية أجهزتها الأمنية المعروفة والسرية، ويتداولونها من باب الفضول واكتشاف أسرار الآلة الجهنمية التي أشاعت ألواناً من الرعب والعذاب والعسف في النفوس، لم يكن للعراقيين سابق عهدٍ بأهوالها، غير ما ذاقوه في انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣على أيدي جلاوزة البعث.
وفاتنا يوم ذاك، ونحن مشدودون إلى فسحة الأمل برحابتها، أنّ عملية البناء، خلافاً للتقويض، تستلزم من العقول والكفاءات والإرادات الوطنية والخبرة السياسية، ما كان النظام المنهار قد غيّبها وشوّهها وأتى على ما تبقّى منها خلال عقود استباحاته. وكان ذلك جليّاً في تصفيته للحياة السياسية، وتجريدها من تعبيراتها الحزبية ومن أي نأمةٍ لحرية التعبير و" التفكير" والتنوع حتى في إطار النظام وفلسفته، مما انتهى الى إلغاء الحدود بين " الدولة - النظام - السلطة" وتجسيدها في فردانية "القائد الضرورة". وسهّل هذا " الدمج - الواقع" إسقاطها معاً، لتعذّر فصل أحدها عن الآخر، لتحلّ محلها "الفوضى الخلّاقة" التي كانت، بين عوامل رئيسة، مما شتّت الفرصة التاريخية لبناء بديلٍ ديمقراطي معافى من أدران الاستبداد الشمولي .
ورغم تبدد الأمل، مع تحوّل "التحرير" الذي راود أسرى الدكتاتورية الى "الاحتلال" بإرادة أممية مدعومة بتصويتٍ عربي، فإن بارقة ظلت تستعصي على الانطفاء باسترجاع إرادة وطنية تنهض بمهام إعادة بناء دولة بمواصفات ما كنا نطمح لبنائه على أنقاض ما تهدم، وليس بفضلاته، وهو ما توهج مع صعود حراكٍ إجتماعيٍّ - سياسيٍّ ، يطالب بالإصلاح والتغيير .
كان واضحاً أن الإصلاح سيتعثر بكرة الثلج التي تكونت من بقايا فضلات النظام الساقط، وتسللت الى نسيج النظام - الدولة اللادولة الفاشلة، بتشريعاتها وقوانينها وأجهزتها المشوهة وآلياتها، وهي كلها نتاج مصاهرة الفوضى الخلاقة مع منظومة وآليات الطائفية السياسية وتجلياتها على كل صعيد .
إنّ أحداً من الوطنيين الطامحين للإصلاح، لا يريد لجذوة الأمل أن تنطفئ، ولن يقبل بالفشل أو إجهاض "نزوعٍ مخلصٍ" لتحقيقها وإرساء الأسس الضامنة لسيرورتها وتطورها. وهذا ما انعكس في الحراك المدني الذي حظي منذ انطلاقته الاولى في شباط ٢٠١١ بتعاطف شعبي وسياسيٍ، على تنوعٍ في الشرائح والاوساط السياسية وتباينٍ في الاجتهادات والمفاهيم والآيديولوجيات والنزعات الفكرية. وقد راح هذا الحراك في لحظة تفاؤلٍ، لا ريبة فيه، يتخلى عن تحفظه فشال فوق الرؤوس شعار "فوّضناك ..." ! وهو شعارٌ غاب عن الضمير السياسي الشعبي منذ فعلها بعد ثورة ١٤ تموز مع الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم .
لكنّ جذوة الأمل يمكن أن تخبو، إذا ظل الإصلاح يتناقض من حيث الجوهر مع ما ينبغي أن يلازمه من مفاهيم وأدوات وقيمٍ ديمقراطية. وهذا ما لم يتضح رغم كَمّ الأقوال والقليل من الافعال غير النافعة. وإذا كان الإصلاح في جوهره يتطلب إعادة بناءٍ لدولة الفضلات الفاشلة، فإن ذلك لا يعني سوى تكريس العملية على قاعدة دولة المؤسسات والحريات والقانون وحقوق الإنسان .
وفي لُبّ هذه العملية تقع مؤسسات الدولة الديمقراطية وحاضنتها وحاميتها السلطة القضائية المتطهرة من أدران الأنظمة الشمولية "الواحدية المغلقة على إرادتها .!
وقد جاء قرار المحكمة الاتحادية حول صلاحيات رئيس مجلس الوزراء في إقالة "وزرائه" ليدقّ وتد شكوكٍ متوارثة من عهد الحكومة السالفة في إمكانية تصالح دعاة الإصلاح مع إمكانية الاتكاء على السلطة القضائية، في شلّ ميول الانفراد و"تبويش" وجهة بناء المؤسسات الديمقراطية الضامنة للإرادة الشعبية الوطنية .
لماذا يحتاج "المصلح" الى قوانين تحميه من الرقابة والمساءلة، وتنأى به عن الانفراد في اتخاذ القرار ورسم سياسة الدولة ونهجها خارج إرادة السلطة التنفيذية "مجلس الوزراء" الذي اعتبره الدستور صاحب الصلاحية في رسم السياسات وجعل رئيس المجلس منفّذاً لها ..؟
أليس عيباً وغفلة من المشرّع حين يفصل بين "وحدة المبادئ وترابطها" في الدستور، ويجرده كيفياً من مبناه وروحه، وهما ما أريد بهما تجسيد الإرادة الوطنية والحماية من العودة الى الانفراد والتحلل من الخضوع للنهج المؤسساتي؟
لماذا يريد رئيس مجلس الوزراء إضفاء شرعية على عزل وزرائه، إذا كان بإمكانه فعل ذلك وفقاً للسياقات الدستوربة الديمقراطية .؟
ولماذا يرى في مواجهة مَن هو مشتبهٌ به من الوزراء أو مجرّدٌ من الكفاءة والأهلية، عيباً في السويّة، مع أنه ليس إلا ضعفاً ونقصاً وتردداً، وربما "خجلاً اجتماعياً" لا علاقة له بإدارة شؤون الدولة، ولا يستقيم مع مقوّمات من يريد أن يتصدّى لمشروعٍ بمستوى ما يجسّده من تحدياتٍ كما هو عليه مشروع الإصلاح والتغيير ..