كثيراً ما نستعجل الحكم على ما نرى، عملاً كان أو نصاً أدبياً أو ظاهرة، وكلما ازدادت حماستنا، أو هوسنا، أو اعتدادنا بفهمنا وعلمنا، زاد هذا الخلل أو سوء الحكم.من هذه، ما ارتكبته أنا مرات، دع الآخرين في زهدهم لا يعترفون، أنا فعلت مثل ذلك وارتكبت أخطاء في
كثيراً ما نستعجل الحكم على ما نرى، عملاً كان أو نصاً أدبياً أو ظاهرة، وكلما ازدادت حماستنا، أو هوسنا، أو اعتدادنا بفهمنا وعلمنا، زاد هذا الخلل أو سوء الحكم.
من هذه، ما ارتكبته أنا مرات، دع الآخرين في زهدهم لا يعترفون، أنا فعلت مثل ذلك وارتكبت أخطاء في سرعة الأحكام على ما أشهده أو سرعة التفسير. فأكثر من مرة أدنتُ ما شاع في القرن التاسع عشر، وحتى العقود الأولى من العشرين، حالاً في الشعر العراقي، وبخاصة بين شعراء بابل والغري، أي في الحواضن الأدبية التي تجمع بين الآداب والدين ويكتب واحدهم شعراً وعماتُه على رأسه أو قريبة منه.
أولاء الأفاضل، رحم الله من مضى وعافى من ظل بركة لنا، كان واحدهم لا تفارقه الطرفة ويقتنص المناسبة ليقول فيها شعراً، ختاناً، عرساً، وفاة، هجر محب أو نزاعاً أدبياً ..
صحيح هي ليست أشعاراً جادة مهمة ولكنها نماذج شعرية في بعضها انتباهات وفي بعضها براعات. النظر لها بازدراء، أو نظراً عابراً، ليس هو الصواب. الصواب دراستها ومعرفة ظروفها وما كانت تخفيه في ثناياها.
كان مجتمع بيئات محدودة، شبه راكدة، فيها وفرة من الوقت، وهم، غالباً، رجال دين أو ناس كسبة صالحون أو أصحاب فصاحة تفرغوا للصلاة وللكتابة. تأتي المناسبة من قريب أو من عزيز، يستجيبون لها ويكتبون أسطراً حميمة فيها.
هي كتابات عابرة؟ نعم. هي ليست قصائد؟ نعم لكن هي تشكل نوعاً من الادب ولنا منه كثير، نصوصاً في كتب أو شواهد في مقابر، إذاً، وجبَ الدرس ووجب النظر الجاد!
دعتني للحديث عن هذه المسألة اليوم قراءتي لنصوص إغريقية عن الابجرامات. والابجرامة Epigram تعني نقشاً باسم كاتبه حول عمله الأدبي أو باسم مؤلفه أو عن قربان أو نقش على شاهدة قبر أو لإثارة صلة شخصية، حبا او كرها. وتماماً كما في العراق كتبت عن الموائد والمناسبات، فهي تؤرخ أو تشيد أو تذكر موقفاً أو ترثي. الابجرامات أيضا محدودة الأبيات قليلتها، أو كما شاء الشاعر وما استدعت الضرورة. الابجرامات في الغرب اليوم تقتصر على شواهد القبور وقد تنزع للسخرية.
في شعرنا العراقي – القرن التاسع عشر وحتى العقود الأولى من العشرين –شبه بما كان لدى الأغريقي. أبيات معدودة، تزيد أو تنقص، في مناسبة : وليمة، سفر، ختان، خطبة، وفاة، أو ترحيبا أو أشادة أو ذماً لفعل أو حدث كان. والغالب منها يؤرخ للمناسبة أو يُنْقَش على شواهد القبور.
للأسف الشديد، أن أشعاراً مثل هذه لم يتصد لها دارس ولا تناولها بحث ليكتب لنا عنها، فيكشف طبيعتها، أشكالها الشعرية، مضامينها ويدرج لنا ما تسنى له من المناسبات والأسماء التي قبلت فيها، للأرشفة والحفظ أو للدرس.
لا زهد بنص، لا زهد بظاهرة، لا زهد بكتابة اهتم بها ومارسها العديد من الشعراء في أزمنة مضت. نحن في الآثار لا نزهد بجرة أمثالها كثيرات ولنا في المتاحف العديد من الجرار. أولا هو شعر وله أساليبه ومضامينه. ثانيا ذكر المناسبة وما يكتب فيها ينفع في الدرس الاجتماعي، كما في حضارة وتاريخ المدن، كما أن الأجواء تعطينا صورة وفهما خاصاً لحال المجتمع والعلاقات الإنسانية فيه.
وسواء كان ذلك الشعر فناً أو تقليداً في الكتابة ساد أوساطاً وقال به شعراء ذوو شأن، هو يستوجب الدرس والنظر.
ابجرامات الشعر الإغريقي معروفة ومهمة فناً وقيمة تاريخية، والابجرامات في الشعر الإنجليزي والأمريكي الحديث، فيها أمثلة شعرية فناً وفكراً كما فيها العابر وغير المهم، مما يصل ببعضهم أحياناً حد السخرية والنقد اللاذع أو النكات.
من الشعراء القدامى، اشتهر الأغريقي سيمونيدز، واسكاليداس وكثير سواهم من الشعراء حتى نصل إلى المبرز كاليماخوس، وكما كانت في الشعر العراقي ذاك مطاردات أو إكمال أبيات، كان يمارس ذلك شعراء الابجرامات المختلطة، فبعد أن يقول الجالسون ما جادت به قرائحهم وذاكرتهم، تدور مناقشات أدبية. ما أشبه هذا بالأجواء النجفية، بين شعراء الغري، وبالأجواء التي كان يلتقي بها أفراد من شعراء البابليات، الفارق أن بعضاً من المسابقات والنشاطات عند الشعراء الإغريق كانت تحضرها شخصيات من الطبقات الراقية أو قد يحضرها الملك.
لا ننكر فوارق المستويات، سواء في فن الكتابة أو في عمق الدلالات، لكننا لا نفتقد ما هو مهم ومحترم في بعض من الكتابات العراقية المماثلة. نعم في الشعر الإغريقي، أعني في الابجرامات، سواء على الشواهد او في المناسبات أو نقوشاً على التماثيل أو نصوصاً مبثوثة في الكتب، نجد انتباهات عميقة من الحب وفي الأسى الإنساني مما يمس أرواحنا حتى الآن ، هناك تفوق. اسكليداس يكتب ابجرامة عن قبر خال! ويكتب عن استلابه حباً :
يا آلهة الحب، أتوسل إليكم
أن تتركوني احتفظ بما تبقى من روحي.
ويقول في أبجرامة أخرى :
يا آلهة الحب، يا ورديات الوجنات
صوبن سهامكن إلى فيلينوس الوسيم،
صوبن إليه من أجل خاطري.
وهذه ابجرامة نقشت على شاهدة قبر :
هذا الذي نمرّ به، إنما هو قبر ابن باتوس
الذي كان بارعاً في الشعر وفي بعض الأحيان
ماهراً في الإضحاك في مجالس الشرب ..
مشكلتنا في الأرشفة وفي كتابة تاريخ الأدب أننا لم نجد لتلك الأشعار العراقية، في الشواهد والمناسبات، مصطلحاً أو تسمية، فكانت النتجية أنها أشعار مناسبات ومنظومات بلا شأن! لولا ذلك لكانت فصلا في كتاب أو لوجدنا كتباً تدرسها أو تشتمل عليها.
وهذه نماذج من ابجرامات كاليماخوس *ت عبد الله السلمي..
"1"
أيرقد خاريداس تحت ترابك؟ "إذا كنت تقصد ايجارس
فهو تحتي" وماذا يا خاريداس عن العالم السفلي؟
"ظلام دامس" وماذا عن الدنيا؟ "أكذوبة"
وبلوتو؟ "أسطوره". يا للنكبة!..."
"2"
ألا ليتها ما كانت تلك السفن السريعة!
فما كنا بكينا سوبوليس ابن ديوكليدس.
ولكنه الآن جثة تطفو في مكان ما من البحر.
وبدلا منه، نمر على قبره الخالي..
"3"
كثيرا ما تبحث بنات الساموسين
عن احلى رفيقاتهن، اللبقة على الدوام،
كارتيس الفياضة بأقاصيصها،
الماهرة في عذب المرح،
لكنها ترقد هنا في نومتها المقدرة على الجميع..
"4"
املأ الكأس وردد "في نخب ديوكلبس"
مَنْ امرّر كؤوسَه المقدسة. يا له من صبي جذاب
يا أخيلوس، أنه لغاية في الوسامة.
وإن انكر شخص ذلك، كفاني أن أعرف وحدي
كم هو جميل!
*ت عبد الله السلمي / كاليماخوس