القسم الثاني
نقرأ في كتاب ويلسون عن أساطير متخيلة مثل أسطورة ( ويلسون ) الذي شغل الناس طويلاً ، أو عن أساطير أدبية حقيقية مثل ( جويس ) أو ( شو ) أو ( دوستويفسكي ) أو ( الأخوان جيمس ) أو ( سارتر ) أو ( هيمنغواي ) ، كما نقرأ عن شخصيات مؤثرة تم تجاهلها بطريقة محزنة للغاية مثل ( أرتسيباتشيف ) ، ويمرّ بنا أيضاً عالم المغامرة الرفيعة وبطلها ( جيفري فارنول ) الذي يفرد له ويلسون فصلاً في الكتاب ،،،،، إلخ ، ولاينسى ويلسون أن يخبرنا في سياق قراءاته للكُتّاب عن المواضع التي أثّرت فيه عميقاً أو تلك التي ارتأى أن ينأى بنفسه عنها في بواكير مراهقته ؛ لذا يمكن اعتبار كتابه هذا أطروحة نقدية إلى جانب كونه فصولاً مكملة لسيرته الذاتية .
من الطبيعي أن يكون خيار ويلسون للكُتّاب والموضوعات في كتابه هذا مؤسساً على ذائقته الشخصية بالكامل ، ولايمكن أن تخفى على القارئ المدقق نشوة ويلسون وشغفه في تفنيد النزوع السلبي المقترن بالعبثية والعدمية غير المنتجتين واللتيْن صارتا السمتين الملازمتين لعقود عدة في القرن العشرين ( وبخاصة العقدان الخمسيني والستيني ، ومن قبلهما الحقبة اللاحقة للحرب العالمية الأولى ) ، ولم يدّخر ويلسون جهده في توضيح أساس هذه النزعة السلبية التي نمت جذورها في الفكر الوجودي الوارث لتقاليد الرومانتيكية الأوروبية في القرن التاسع عشر والتي ركّزت المفاهيم الذاتية والأنوية السلبية وجعلتها تستحيل أوهاماً ذهانية خطيرة .
يعرف معظم القرّاء أن قراءة الكتاب تنطوي على مزايا ممتعة تبعث البهجة في القلب ، ولعل واحدة من أهم هذه المزايا أن قراءة الكتاب تقود إلى المزيد من القراءة والتنقيب في كتب أخرى فيما يشبه المتسلسلة اللانهائية ؛ وهذا هو ما أراد ويلسون التأكيد عليه بوضوح وبخاصة في الفصل الخاص بِـ ( شرلوك هولمز ) حيث يصرّح ويلسون أن عُدّته الاستنتاجية في البحث عن الكتب بعد قراءته لكتاب محدّد باتت تشبه وسائل هولمز في الكشف عن الأحجيات : على سبيل المثال تقود قراءة إليوت إلى اكتشاف كل من ( هولم ) و( الباغافاد غيتا ) و ( إيرنست هيمنغواي ) . إن رغبة ويلسون العظيمة في القراءة لم تكن تعرف حدوداً مثلما نتحسّس في قراءتنا لفصول هذا الكتاب ، وإن رغبته في تحقيق الذات وتخليق بصمة ذاتية له إلى جانب تهدئة مرجل الأفكار الذي يغلي بداخله - كل هذه الأمور جعلت ويلسون يندفع في قراءة أي كتاب يمكن أن تطوله يداه ، وأعتقد اعتقاداً حاسماً بأن ويلسون نجح في كتابه هذا بكشف المفاعيل المدهشة للكتب في حياته والطريقة التي دفعته بها لارتقاء الذرى الفكرية التي بلغها لاحقاً وكتب عنها في سلسلة كتبه التي جاوزت المئة والأربعين كتاباً .
شرعتُ على الفور بعد إكمالي ترجمة السيرة الذاتية للكاتب ( التي نشِرت عن دار المدى عام 2015 ) في طلب نسخة ورقية من كتابه ( الكتب في حياتي ) من خلال خدمة الأمازون ، ومضيت بلا تأخير في ترجمة الكتاب ، ومن المتوقّع أن أتيح لقرّائي الأعزاء متعة قراءة كتاب ( الكتب في حياتي ) للراحل كولن ويلسون بعد أن يظهر عن دار ( المدى ) التي رسّخت بصماتها الإبداعية في تبني المطبوعات الثقافية " النخبوية " المتميزة في جميع الحقول الفكرية المعروفة.