محمود امين العالمشكراً عميقاً لهذه الدعوة الكريمة للمشاركة في شرف هذا اللقاء الروحي الفكري الحميم مع الانسان والمفكر والناقد والمناضل الوطني والقومي والأممي حسين مروة.. واسمحوا لي ان اقول منذ البداية إن الحديث عن حسين مروة ، اكبر من أي حديث آخر عن الإضافات التي اضافها حسين مروة الى حياتنا وفكرنا وثقافتنا، على رفعة هذه الاضافات،
على ان هذه الاضافات هي بعض فيض لهذا النموذج الانساني الباهر، بعض تجسيد الكنوز لملامحه الباطنية الغنية، ولهذا لا تتوهج في النفس ذكراه حتى أستشعر رفيق هذا العطر الانساني النادر، عذوبة نفس، وشرف فكر، وسماحة خلق وجسارة موقف، وطهارة مسلك واكاد اقول: نبوة مسلك. ما اكثـر ما تساءلت كيف تكاملت هذه السبيكة الذهبية الانسانية النادرة في شخص حسين مروة؟ وقد تسمح لي معرفتي الحميمة بحسين مروة، وقراءاتي المدمنة لملامح حياته وكتاباته ان اجتهد في تلمس مصادر هذه الملامح.. وأكاد أجدها ذاتها في رحلات ثلاث له: اولى هذه الرحلات: هي رحلة معاناته الفكرية الروحية الاولى من سماوات تراثنا العربي الاسلامي في ابعاده الباطنية التي استوعبها استيعاباً عميقا حميماً، رحلته منها وبها الى قمم عصرنا الراهن في مستجداته الفكرية والعلمية التي استوعبها استيعاباً عقلانياً عميقاً كذلك، وامتلك ادواتها المنهجية، وتفتح على إمكانيات رؤاها المستقبلية. أما رحلته الثانية: فهي رحلة العودة الى هذا التراث العربي الاسلامي، على استقلالية نقدية لهذا التراث بكل ما استوعبه حسين مروة من رؤى منهجية علمية عصرية. بفضل رحلته الاولى استطاع ان يضيف الى القمم الباردة والالية في معارف العصر ومناهجه العلمية والتطبيقية اعماقاً انسانية روحية اخلاقية جمالية ما اكثر ما نفتقدها في هذه المناهج. وبفضل رحلته الثانية استطاع ان يبني سماوات التراث العربي الاسلامي بوعي ناصع بحقيقته السياقية والتاريخية. ومن هاتين الرحلتين استطاع ان يجدد رؤية الماضي بمستجدات الحاضر، وان يحرر هذه الرؤية من جمودها السلطوي والعقائدي، وان يجعل من رؤيته، لا قطعية معرفية عدمية مع الماضي، وإنما تواصلاً تجاوزياً إبداعياً للماضي واستشرافاً للمستقبل. وهكذا، كان من الطبيعي ان تبزغ رحلته الثالثة، رحلة المشاركة في تجديد الحياة وصناعة المستقبل: رحلة الانتقال من نقد المعرفة الى نقد الواقع، من أفق النظرية الى أفق الفعل التغييري، رحلة التفاعل الجدلي الحي المتصل المتشابك بين الذات والموضوع، بين الضرورة والحرية بين الالتزام والابداع، بين الآني والتاريخي ، بين الحقيقة والقيمة، بين خصوصية الأنا القومية وكلية الأنا الانسانية بين الوطنية والاشتراكية العلمية. على ان هذه الرحلة الثالثة لم تكن في أي لحظة من لحظاتها منفصلة عن رحلتيه الاخريين – ولا أقول السابقتين –إنما هي رحلات ثلاث متكاملة متزامنة متسقة متنامية في رحلة واحدة تشكل ملامح حسين مروة: ناقداً ومفكراً وباحثاً ومناضلاً وسؤوالاً قلقاً دائماً، ونموذجاً إنسانياً باهراً. على انني أخون فكر حسين مروة، ومنهجه ، اخون الحقيقة ، ان لم أتبين وراء هذه الرحلات الثلاث، وراء هذه الشخصية الباهرةن نفحات من جبل لبنان العريق الذي ابدع الحرف الاول وابدع العديدين من المفكرين والمبدعين الكبار، الذين صاغوا وما زالوا يصوغون من هذا الحرف آيات من الفنون والمعارف والمواقف الشامخة في ثقافتنا العربية. ان حسين مروة ابن مبدع لشعبه اللبناني المبدع كان امتداداً مبدعاً لما سبقه من ابداع في النقد الادبي، على انه لم يكن مجرد ناقد ادبي، انتقل بالنقد الادبي من الرومانسية الى الواقعية –كما يقول وكما يقال –وانما استطاع كذلك، ان يجعل من النقد الادبي، نقداً للحياة نفسها، تنمية لقيمها المجتمعية والجمالية، ولم يكن بواقعيته أسيراً للواقع، بل كان متجاوزاً لتضاريسه الخارجية، مضيئاً لدفائنه، كاشفاً لما هو جوهري فيه، مبشراً بما هو اعمق واصدق واجمل، مستفيداً من الدراسات والمعارف اللغوية والمنهجية والعلمية الجديدة. وكان حسين مروة امتدادامبدعاً لما سبقه من ابداع في الدراسات التراثية، ولكنه اعاد بناء رؤيتنا للتراث الفلسفي مبرزاً ما فيه من كنوز الفكر المادي الموضوعي الذي طالما غيب وما زال يغيب عند اغلب من يكتبون عن هذا التراث، فضلاً عن كشفه لحقائق الصراع الطبقي في قلب التراث الفكري والادبي والديني والثقافي عامة، بغير جمود منهجي او ايديولوجي. وعندما اتأمل ما تركه من جهد فكري عظيم في مجال هذه الدراسات التراثية وما أثارته وتثيره حتى اليوم من حوارات وخلافات غنية، اشعر بأسى عميق، ان في حياتنا الثقافية مجلد ثالث كتب ولم يكتب وبعد! اجهض وهو ما زال وعداً من ذهن صاحبه، اغتالته رصاصة في موضع ابداعه متحقق، نعم.. ما أشد ما اشعر به من أسى عميق في هذه الحضرة الروحية العقلية مع شهيدنا العظيم حسين مروة، للغيبة الفادحة لهذا الجزء الثالث من ملحمته التراثية "لنزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية". انا لا اعرف أقف عند هذا الجزء المفتقد من هذه الملحمة، انا لا أتحدث عن ركن ثالث في رؤية شاملة، في موقف فكري مستنير فاعل، ما اشد ما نفتقده في رؤية تراثنا الثقافي والنضالي منذ ابن رشد حتى اليوم. يقول حسين مر
حسين مروة في رحلاته الثلاث
نشر في: 22 يناير, 2010: 07:42 م