رسول محمد رسول لا تزال قضايا ومسائل جوهرية تمثل مدار الإشكاليات الفكرية والمعرفية العربية الحديثة، وفي مقدمة ذلك سؤال التراث العربي ومناهج التعامل معه والاقتراب منه، إذ تتعدد الرؤى وتتنوع الأدوات. ولعل أبرز المحاولات والمقاربات المعاصرة هي مقاربة محمد عابد الجابري وحسين مروّة والطيب تيزيني وحسن حنفي ومحمود شاكر وطه عبد الرحمن وعدد من المستشرقين الغربيين والروس.
في هذا السياق يناقش الزميل موسى برهومة في كتابه (وأطروحته للماجستير) "التراث العربي والعقل المادي" مقاربة حسين مروة للتراث الإسلامي وبالتحديد في كتابه الجدلي المعروف "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وتكمن أهمية دراسة مروّة أنها لا تقف عند حدود تطبيق المنهج المادي الجدلي على جزء من التراث العربي، بل هي محاولة لإخضاع التراث العربي بأسره لهذا المنهج من خلال الكشف عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والصراعات الطبقية المتحكمة في عملية الإنتاج المعرفي وأثرها على المفكر والفيلسوف نفسه ابتداء، ثم الكشف عن العناصر المادية والعقلية في التراث الذي تبتعد به عما يراه مروّة والفكر المادي الشيوعي عناصر وبنى ميثولوجية أسطورية ثاوية في ثنايا الفلسفة العربية والإسلامية الوسيطة. وعلى الرغم من الإعجاب والتقدير الكبير الذي يكنه الباحث (برهومة) للمفكر (مروّة) فإن هذا لم يمنعه من الاحتكام إلى عقله النقدي في التعامل مع منهج مروة المادي، ولم يتردد برهومة في تقرير القول بأن مروة يجنح إلى القسر المنهجي والعسف الأيدلوجي في تعامله مع التراث العربي والإسلامي. ولعل ملاحظة برهومة تسجيل إيجابي لرؤية عدد من المثقفين والباحثين العرب في نقد منهج مروة المادي ورفضه بداعي التخوف من ضياع سؤال المعرفة الموضوعية تحت وطأة الحماس الأيدلوجي والحرص على توظيف التراث في إطار حركة التحرر والصراعات الطبقية. وعلى الرغم من إقرار العديد من المثقفين والمفكرين العرب بأهمية مساهمة التراث في إنجاز حركة تنويرية عربية تحررية إلا أن هذا لا يعني اجتراح نتائج خارج سياق الدلالات الحقيقية للتراث، بمعنى آخر تحميل التراث ما لا يحتمل من قراءات وإشارات. وإذا كان هناك العديد من الاعتراضات والتحفظات على منهج مروّة، فإن هناك في المقابل العديد من الباحثين والكتاب والمثقفين العرب يرون أنّ مجهود مروّة وإن احتوى على نتائج وخلاصات لا يتفقون معها، إلا أنه مجهود فريد ونادر في محاولة قراءة التراث العربي في سياق منهج واحد واضح وهو المنهج المادي، فمروة لم يقم بـ"مذبحة للتراث" ولم يعزله عن سياقاته التاريخية والمادية والطبقية وحاول استنطاق البعد المسكوت عنه في كثير من الأحيان في هذا التراث ألا وهو البعد المادي الذي يعلي من شأن النزعة العقلية والمادية والسببية ويربط الحركة بشروطها الموضوعية ويعزلها عن التفكير الغيبي الذي يحكم كثيرا من القراءات الإسلامية للتراث ونتاجه. وفي الوقت الذي تثير فيه قراءة مروّة الجدل الفكري والمعرفي العربي، فإن التجربة الشخصية والعملية لمروة وانتقاله من العمامة إلى الشيوعية تثير بذاتها العديد من الأحاديث والقضايا وتسلط الضوء على تجربة فكرية وروحية غنية تمكّن برهومة بأسلوب شيق ومختصر أن يلم بأبعادها الرئيسة وتحولاتها وتساؤلاتها المحورية. فحسين مروة ابن قرية (حداثا) في جنوب لبنان، ولد عام 1910، والده عالم دين شيعي حلم منذ البداية بأن يحمل ابنه خلافته في العلم الشرعي. بدأ بتدريس ابنه العلوم الدينية منذ الصغر، ثم هاجر الإبن (حسين) إلى النجف لاستكمال علومه الشرعية عام 1924، لكن "المرحلة النجفية" لم تستسلم ليقينية المذاهب الدينية وإجاباتها المعرفية فقد أخذت الأسئلة المعرفية تستفز مروة وأخذ ينوع في قراءاته ودراساته، وهي الفترة التي يصفها مروّة نفسه بالخصب المعرفي، وفي تلك الفترة بدأ يتعرف على الفكر اليساري العربي وعلى الاشتراكية والشيوعية ومن ثم على كتابات ماركس ولينين، لكن تأثره الكبير كان بكتابات إسماعيل مظهر وشبلي شميل وقد كان لهما الأثر البالغ في التحولات الفكرية والمعرفية والسياسية لدى مروة. لم يفكر مروّة بعد نهاية دراسته العلمية (في النجف) واستقرار تحوله الفكري إلى الشيوعية بمغادرة العراق، والعودة إلى لبنان، فقرر البقاء والتدريس لطلاب المدارس العراقية، والمشاركة في الحياة الصحفية والسياسية، وقد شهد في العراق الحرب العالمية الثانية، وشارك فيما عرف بالوثبة الوطنية (ردا على معاهدة بورتسموث) وعلى الرغم أن مروّة لم يدخل الحزب الشيوعي آنذاك إلا أنه شارك بمقالاته وأفكاره مما أدى إلى نفيه إلى لبنان. في لبنان انخرط مروّة في الحزب الشيوعي وساهم بانبثاق مجلة "الثقافة الوطنية" عام 1951 وبتأسيس هذه المجلة أصبح مروّة عضوا في الحزب الشيوعي، ونشر في هذه المجلة العديد من المقالات من بينها بعض المقالات المرتبطة بقراءة التراث إلى أن صدر تكليف رسمي له من قبل الحزب الشيوعي بكتابة "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، فغادر إلى موسكو، ومكث حوالي عشرة أعوام، حتى أنجز أطروحته عام 1978. هذا الكتاب الذي أثار جدلا ثقافيا ومعرفيا واسعا وأدى إلى مقتل صاحبه قبل أن يكمل مشروعه مكتفيا بتقديم مجلدين للمكتبة العربي
التراث العربي والعقل المادي
نشر في: 22 يناير, 2010: 07:43 م