حسين مروة هذه كبرى المفارقات في حياتي.. رحلت الى النجف صغيراً.. لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيراً كبيرا.. والمفارقة هنا ان الحلم هذا لم يستطع ان يعيش معي في النجف طويلاً.. لماذا؟.-الف سبب وسبب يمكن ان يقدم لي نفسه بهذه المناسبة، فأتعرفه وأعرفه جيداً، لكن السبب الحقيقي، المباشر او غير المباشر، هو الوحيد الذي اجهله منذ البدء، وما ازال..
-ان اصير "شيخاً" مهيباً مرموقاً، كوالدي.. ذلك كان حلمي الاول، سبق كل احلامي سبق حتى احلام طفولتي وحين بدأت تتدفق بها ذاتي اخذ يحتويها جميعا، او هو: اخذ يلتهمها جميعا بشراسة..هذا الحلم لبسني قبل ان اجتاز سن الثامنة.. ولبستني معه العمامة والجبة قبل اوانهما "الطبيعي" العامامة والجبة كرمز للحلم ذاته اولاً، وكأداة إلزام لي بموجبات الحلم ثانيا..rnقلت: حلمي؟-لا ، عفوا ..ذلك كان، منذ البدء حلم أبي ، ثم أمي والاسرة ، ثم سائر العائلة في سائر جبل عامل..ومذ بدأ يتكون كحلم لي ، مات ابي.. لكن الحلم لم يمت ، لأنه صار حلمي.. مات ابي وفي نفسه لهفة ان يبقى طويلاً حتى يتحقق الحلم.. مات وأنا في الثانية عشرة، فأحسست ثقل الحلم يفيض عن طاقتي ، ابي كان يبدو لي انه من اهل اليسر المادي، فإن منزلنا في "حداثا" لم يكن يخلو من الضيوف على مدار العام، ولم تكن الضايفة- مادة وطريقة –تنزل عن مستوى الضيافة المألوفة عن اهل اليسر في بلادنا في ذلك الزمن.. وظهر لي فور موت ابي اننا من اهل الفقر، لا من اهل اليسر، وفجأة رأيت أننا صرنا في مكان مكشوف جدا بين صفوف الفقراء من اهل بلادنا..كيف اذن احمل الحلم، بعد؟-في البداية حملته وحدي، اخذت اطوف به من بلدة الى بلدة، باحثاً له عن غذاء علمي اولي عند اهل العلم من بقايا الاجيال الدارسة في جبل عامل، مكتفياً بالاقل الاقل من ضرورات الغذاء الجسدي.. ثم كان "لابد من صنعاء".. وكانت "صنعاء" حينذاك هي النجف دار الهجرة الاولى لكل شيعي في العالم يحلم كحلمي ذاك.. الحلم سيبقى قاصراً، سيبقى فجاً ان لم تلفحه شمس النجف، سيتحول قزماً الى النهاية ان لم أدركه ، قبل فوات الاوان، بالهجرة سريعا الى النجف –وكانت الهجرة (1924).. لم يستطع الحلم ان يعيش معي في النجف اكثر من عام واحد.. لن اقول: "لماذا" مرة اخرى، لأنني سأقول مرة اخرى ايضاً: ان السبب الحقيقي هو الوحيد الذي أجهله من بين الاسباب الكثيرة التي تعرض نفسها لي في مسافة طويلة من مسافات الذاكرة، كلما عرض لي هذا السؤال..لكن، اذا كنت اجهل حتى الان ذلك السبب الحقيقي الخفي، فإني اعرف، وما نسيت قط، ان ذاك الحلم الطيب الاليف بدأ ينتابه الضمور والذبول في ذاتي، أي أخذ يفقد –شيئاً فشيئاً – صفته كحلم لي، ليعود اخيراً الى ما كاأنه في البدء: حلم الاسرة والعائلة في جيل عامل فحسب.. العام الاول لهجرة النجف، ما كاد ينقضي حتى رأيت خاطراً قاهراً صارماً يعترضني يريد ان يحملني على الاختيار الحاسم في مسألة دقيقة للغاية، وهي مسألة تحديد وجهة المصير:مصير حياتي كلياً.. كان علي ان اختار: إما قرار العودة الى الارتباط النهائي بذلك الحلم الذي حملني هو الى دار الهجرة، النجف: أي ان اقرر –منذ لحظتي تلك – متابعة السير في مسار "المهنة" التي كانت كل مطمح الحلم..وإما ان أقرر الانعطاف القاطع عن هذا المسار..الاختيار، لأنه لم يرتفع الى مستوى كونه احد طرفي الاختيار، ما كان يعنيني –في لحظتي – سوى ان اختار إما متابعة الخط المرسوم لي من قبل، وإما الانعطاف عنه، وان الى المجهول؟.. لم أتردد مطلقاً..اخترت فوراً.. ..وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم وغابت – تواً – من حياتي الى النهاية صورة "الشيخ المهيب المرموق" التي كانت هي نفسها صورتي كما رسمياً لي الحلم.. -الى المجهول؟.. -لا .سرعان ما تحول المجهول معلوماً..ذلك بفضل الحلم المنطفئ ذاته.. بفضله هو – نعم..فهو الذي اشعل في داخلي ، منذ الصغر ، لهفة الاسئلة، شهوة التطلع الى كل افق، نزعة التلفت الى كل الجهات، أي اشعل بي حافز المغامرة في طلب المعرفة حتى في اعمق غابات المجهول.. بفضل هذا الحلم الذاهب عني، أو الذاهب انا عنه بأختيار حاسم.. لكن الذهاب هنا ليس ذهاباً عن العمق والجذور، لم يكن الذهاب هنا انقطاعا عن العمق ، ولا انفصالاً عن الجذور.ز بفضل الحلم الذاهب نفسه، وجدت داخل عالمي المغلق آنذاك نافذة تنفتح على المجهول..فرأيت دربي مضيئاً وحددت هدف المسير واضحاً.. المجهول الذي صار معلوماً، هو العلم اذن..هو العلم، نهجاً وهدفاً معاً، كيف الدخول في هذا المجهول /المعلوم؟كيف، وقد تحولت العلاقة مع الحلم الذاهب، أي مع طريقي الوحيد حينذاك الى العلم، تحولاً يعني انسداد هذا الطريق أمامي تلقائياً، كما هي طبائع الامور في مثل وضعي ذاك؟ لابد من الدخول..هكذا قلت.. سأبقى في النجف.. سأتابع الدراسة في النجف..هكذا صممت ذلك هو الاختيار الثاني الحاسم: سأبقى..سأتابع برغم كل الاسئلة المستنفرة في داخلي ضد هذا الاختيار، برغم كل الاثارات المحتملة في داخل ذاتي حيال هذا القرار، برغم كل المخارز التي ستتصوب الى خاصرتي عند كل خطوة
من النجف دخل حياتي ماركس
نشر في: 22 يناير, 2010: 07:48 م