اكثر من نصف قرن واسمه يدور وسط اغلب المحافل الثقافية والادبية التي تعقد في العراق مثلما لم يغب عن البروز في الصحف ان كانت العربية او الكردية . د. كمال غمبار وهو يتجول في اروقة المعرض وبين اجنحة الكتب بحركته الهادئة الاثيرة حتى اقترب من المركز الاعلام
اكثر من نصف قرن واسمه يدور وسط اغلب المحافل الثقافية والادبية التي تعقد في العراق مثلما لم يغب عن البروز في الصحف ان كانت العربية او الكردية . د. كمال غمبار وهو يتجول في اروقة المعرض وبين اجنحة الكتب بحركته الهادئة الاثيرة حتى اقترب من المركز الاعلامي لمعرض اربيل الدولي للكتاب ليحل ضيفا كبيرا. بعد الترحب والحفاوة بحضرته وتصوره عن المعرض واهمية تنظيمه في هذه الظروف الصعبة. غمبار اوضح ان قراءاته كثيرة ومنوعة، ومتعدد الجوانب حتى "أحياناً انسى الكتاب الذي أشتريه، لكثرة شرائي للكتب." مشددا: إن الكتاب غذاء الفكري، والانسان الذي لايمتلك مكتبة عامرة مهما يكون هذا لا يعتبر رجلاً مثقفاً، وبالعكس.
غمبار واثناء الحديث استشهد بقول مؤثر (المطالعة مفتاح الشخصية) وذكر: "بدأت القراءة والمطالعة سنة 1948 حينما كنت طالبا في الصف الرابع الابتدائي منذ ذاك الحين إلى اليوم حرصت على مصادقة الكتاب الذي ساعدني كثيرا بتطوير لغة الضاد حتى أتقنتها بكل التفاصيل. لتستمر رحلة القراءة إلى يومنا هذا. مستذكرا توقيفه عام 1959 لمدة 83 يوما في سجن خلف السدة وقراءته لما يقرب من 50 كتابا في تلك الفترة.
طوال الحديث ومع كل موقف او حدث يستشهد ببيت شعر عربي لشعراء كبار ، فتارة بالمتنبي واخرى بأبي نواس وثالثة بالجواهري. ولم يفته ذكر حصوله على عضوية اتحاد الادباء العراقيين بتوقيع الجواهري الكبير وعلي جواد الطاهر. ذاكرا : حين اصدر الجواهري دايونه الاول كنت آنذاك في موقف السراي ، ولأني كنت مشتركا في الطبعة العراقية بمبلغ 500 فلس - لاكما كتبه البنك المركزي 500 (فلسا) - ارسل لي الجواهري نسختي موقعة إلى السجن.
فراشة تحتضر
الحديث مع دكتور غمبار ممتع جدا فهو سياحة بالتاريخ واللغة فقد ذكر انه بعد ان اطلق على دار المعلمين العالية اسم كلية التربية، وشاءت الايام ان تكون الدكتورة عاتكة الخزرجي استاذة تدريسية لثلاث مواد هامة وهي: الانشاء والأدب والبلاغة، وقد اشيع عنها من قبل طلبة الصفوف المتقدمة في قسم اللغة العربية وآدابها بأنها قاسية في درجة الانشاء الى حد انها تعطي الصفر، وكنت أتوجس خوفاَ من أن أكون ضمن هؤلاء، وحين حل يوم درس الانشاء جاءتنا الدكتورة عاتكة فكتبت على السبورة (فراشة تحتضر) وطلبت منا ان نكتب عن الموضوع المقرر، وازاء هذه الحالة ازدادت مخاوفي أكثر وبت في قلق كيف لي أن أكتب عن مثل هذا الموضوع الادبي الرومانسي؟ وما العمل؟ ولكن كان شفيعي في ذلك هو أنني حينما كنت أقرأ الكتب كنت أسجل بعض الابيات الشعرية والاقوال الماَثورة والعبارات الجميلة في دفتر الجيب واحفظها لعلها تنفعني في كتابة الانشاء، كما انني قصصت رأس لب (سلاية) قلم الحبر لتبدو كتابتي اجمل .
شرعت بكتابة الموضوع واطلقت جناحي للخيال فتصورت مشهد الفراشة الزاهية الالوان في وضح النهار حين كانت تنتقل من وردة الى اخرى فتضفي على منظر الروضة الفاتنة بهجة وسناء، وحين حل الليل أخذت تحوم حول المصباح لأنها كانت تعشق النور, وحين اقتربت اكثر من المصباح لامس جناحاها زجاجه فاحترقا فسقطت جثة هامدة وغدت شهيدة العشق، ولتبيان التضحية من اجل الحب العفيف الطاهر استشهدت برباعية للشاعر عمر الخيام يقول فيها:
مصباح قلبي يستمد الضياء
من طلعة الغيد ذوات البهاء
لكنني مثل الفراش الذي
يسعى الى النور وفيه الفناء
عباس ابن الأحنف
واستطرد غمبار بحديثه عن ذاك اليوم الذي يعد تاريخا بالنسبة له: واضفت عبارات اخرى الى الموضوع وانهيته، فسلمت الدفتر الى الدكتورة عاتكة بقلب واجف، معللا ومحللا ماذا تكون النتيجة التى تحدد مصيري وانا تحت رحمة سكين استاذتي؟ انتهى الدرس فلم أتمالك نفسي فقلت لزملائى في الصف: ان هذا اليوم هو آخر يوم في حياتي ، ان أكون مستمراَ على الدوام في هذا القسم، انا كردي، ما شأني باللغة العربية واَى جامع يجمعني مع مثل هذه الموضوعات الادبية البحتة، لكنني في قرارة نفسي قلت ان من الأفضل ان ألوذ بالصبر الجميل قبل أن اخطو اية خطوة لتحديد موقفي، بعد يومين كان لنا درس الانشاء فجلبت الدكتورة عاتكة معها دفاتر الانشاء وقد بان علي الاضطراب وزادت دقات قلبي خوفاً، فأول اسم نادته كان اسمي فقالت: كمال قلت: نعم، قالت: من اين أنت؟ قلت لها أنا من أربيل. فقالت: من اين لك هذا الخط الجميل وهذا الموضوع البديع، وطلبت مني قراءته فقرأته بدقة وامعان واثناء ما تلفظت (تحوم) بالواو المخففة قوّمت لي بأنها تحوّم بتشديد الواو، ولا بد أن اعترف بأن ثناء استاذتي عاتكة كان بمثابة برد وسلام عليّ، ومنذ ذلك اليوم احسست بحياة جديدة أخذت تدب في شراييني وتبعث فيّ النشاط والحيوية وتشدني الى اللغة العربية الاثيرة، الأمر الذي اصبح عاملاَ مساعداً لتكوين علاقة روحية صادقة بيني وبين استاذتي عاتكة، لأنها هي التي أخذت بيدي وشقت لي الطريق الذي اخترته وأنا مدين لفضلها علي، وكانت الدروس الثلاثة التي تدرسنا من أمتع الدروس ولا سيما الأدب حين كانت تقرأ قصائد الشاعر المرهف الحس عباس بن الأحنف عن حبيبته (فوز) بصوتها الموسيقي الساحر وإدائها الرائع البديع تضفي على جو الصف حالة من الانشراح النفسي والخيال الرومانسي الحالم، وكانت الدكتورة عاتكة مفتونة بروعة وجمالية القصائد الغنائية لشاعرها المفضل لديها عباس بن الأحنف وطوال انشادها لتلك القصائد الوجدانية عن الحب العفيف الطاهر كنا نحن الطلبة نعيش في جو من الانسجام النفسي والاعجاب حد الانبهار بشاعرية عباس بن الأحنف وما زالت ذاكرتي تحتفظ ببيتين رائعين للشاعر يقول فيهما:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي
فقلت ومثلي بالبكاء جدير
أسرب القطا هل من يعير جناحه
لعلي الى من قد هويت أطير
عاتكة الخزرجي قيثارة العراق
وعن تاثير ذلك على د. كمال غمبار وكيف اسثمره فيما بعد قال : كان انطباع الدكتورة عاتكة عني تشجيعاً كبيراً دفعني أن أثق بنفسي، لأترجم قصة (خازي) للأديب اللامع ابراهيم أحمد ونشرها في العدد الاول من مجلة الأديب العراقي، وكذلك كتبت موضوعاً عن عيد نوروز وترجمت قصيدة كردية الى العربية ونشرتهما في مجلة صوت الطلبة، ثم قدمت المادتين الى اتحاد الأدباء العراقيين كوثيقة للقبول كعضو في الاتحاد المذكور سنة 1961، وكان (محمد مهدي الجواهري) رئيسا له و(الدكتور علي جواد الطاهر) سكرتيراً، فتم قبولي عضوا فيه ومازلت محتفظاً ومعتزاً بالهوية التي عليها توقيعي الرئيس والسكرتير وتنص المدة الثالثة للنظام الداخلي للاتحاد على: "تطوير التراث التقدمي لشعبي الجمهورية العراقية عرباً وأكراداً".
في ختام الحديث مع الكاتب والناقد والمؤرخ الادبي إن صح القول عاد وكرر فضل استاذتي الدكتورة عاتكة عليّ وأنا مدين لها في تشجيعها اياي ودعمها لي في أن اختار اللغة العربية وآدابها وأواصل المشوار معها بعزم واصرار لنيل شهادة الدكتوراه في فلسفة الأدب والنقد العربيين في الخامسة والسبعين من عمري، متخطياَ كافة الموانع والعقبات التي وقفت في طريقي للحيلولة دون تحقيق ما كنت أصبو الى تحقيقه، لقد كانت الدكتورة عاتكة الخزرجي التي اطلقت عليها (قيثارة العراق) حقا تحمل روحا طاهرة وقلباَ صافيا نقياً، فاسمها على مسماها، اذ أن عاتكة من العتكة أي الصفاء والنقاء. فتركت في قلبي اثراً طيباً خالدا يرافقني مادمت حياً.