2-2
في الأسبوع الماضي تحدثتُ عن ظاهرة لجوء الشباب إلى أوروبا، وكيف أننا أمام ظاهرة ملفتة للنظر، لنعاين: فكما يبدو أننا أمام نموذجين يبدوان ظاهرياً متناقضين. هجرة من الشمال، من أوروبا الغربية/ الغنية بالذات باتجاه مناطق الحرب والأزمات، وهجرة مضادة من مناطق الأزمات، من الجنوب الفقير والمدمر والخالي من الآفاق باتجاه أوروبا الغنية، باتجاه الشمال. وإذا استعرنا لغة الدين، من جهة: هجرة شباب وشابات ، عدد كبير منهم تلقى تربية مسيحية، من غير المهم أنهم من أصول مسيحية، أو من أصول مسلمة، ففي النهاية الجو العام، التربية، المدرسة، العلاقات اليومية في أوروبا، تحمل طابعها المسيحي، وعلى الطرف المقابل، هجرة شباب وشابات تلقوا تربية اسلامية، من غير المهم، أنهم من أصول شيعية من العراق، أو أنهم من اصول سُنية من سوريا، بل وحتى مسيحية أو من أقليات دينية أخرى، فالجو العام، التربية، المدرسة، العلاقات اليومية، أي كل ما هو خارج دائرة العائلة الضيقة، تحمل طابعها الإسلامي، لا تختلف إلا بالشكل. شباب وشابات يهاجرون من أجل المشاركة في الحرب والقتل، بالمقابل، شباب وشابات يهاجرون من أجل العمل والبحث عن ملاذ حر. ذلك هو ديالكتيك الحياة: الموت والحياة قطبان متواجهان. ولأن موضوع المحاضرات هذه معني بأولئك الذين ينتجون الموت، فإنه لن يأتي على أولئك الهاربين من الموت والجوع والدمار إلا ضمن السياق العام وعلاقته بالموضوع الذي تحاول دراسته وتبحث فيه هذه المحاضرات الثلاث: الإرهاب أصله ووجوهه المتعددة، بواعثه وما يدعيه، بكلمة واحدة: جولة في عقل الإرهاب، هذا إذا كان للإرهاب عقل، في الأدب وفي الحياةً.
صحيح أن الإرهاب يحمل نتيجة واحدة: الموت. إلا أن من الخطأ الظن، أننا سنقدم تفسيراً له، دون المجيء على وجوهه المتعددة، على رسم ملامح له. الإرهاب قديم قِدم الإنسان. ومتنوع بتنوع الإنسان وتنوع مكانه وإلحاقه بطرف واحد، الإسلام فقط، أو المسيحية فقط، أو اليهودية فقط، هو قناع للتغطية على الإرهاب الخاص.
"لا ترو أبداً قصة واحدة فقط، وإلا انقلب القارب"، حكمة قديمة تداولها الهنود الحمر فيما بينهم، نقلها عنهم وتعلمها منهم الروائي الأميركي والمواطن العالمي أرنست همنغواي، والذين التقى بهم وهو طفل بصحبة أبيه في جولاتهما عبر غابات نهر فوكس (فوكس ريفير)، كما كتب هانس يورغن بالمس في كلمته لرواية " لمن تقرع الأجراس" (الترجمة الألمانية، دار نشر فيشر فرانكفورت 2012، ص 599).
نحن نسمع بحادث إرهابي، ونظن، أنه حادث يفاجئنا في الصميم، نبحث عن تفسير له، دون أن نفكر، أن ماحدث ليس بجديد، نحن نرى الوجه الظاهري الآني منه، ولا نريد التطلع بالمرآة، لا نريد أن نعرف، أن الإرهاب قديم قِدم الإنسان، وأنه موجود في كل مكان، أن فيروساته مبثوثة بالهواء، وأنها مسألة وقت، وستصل إلينا، إذا لم يكن يحيط بنا مثل الهواء، وأن ندفن رؤوسنا بالرمال، أو نصدق كل أولئك الذي لا يجيدون يومياً غير الزعيق، أعني كل أولئك من جيش الساسة والأخصائيين، ملوك الغوغاء والكراهية، الذين كل كلمة ينطق بها لسانهم، هي بذرة لزرع السموم، ولا ندري أن الخدر المسموم الذي تبعثه دعوات هؤلاء، هو تكملة لذلك الإرهاب الذي يدور مثل شبح في العالم، ويطرق علينا الأبواب، بعضنا يظن أنه يكفي أن يلوذ بغرفته، وهو يسير على خطى باسكال: "مشاكل الإنسان تبدأ بعد مغادرته غرفته"، لكي يفر بجلده وينقذ نفسه، وبعضنا الآخر، يطمئن نفسه بالقول: طالما أن الإرهاب واضح، ويحمل وجهاً واحداً معروفاً، في أيامنا هذه الإسلام، فلا داعي لأن يشغل نفسه بقصص أخرى، أنه يكتفي بقصة واحدة وحسب.
ولأننا نعرف الحكمة التي أطلقها الهنود الحمر مثل النذير، ولكي لا ينقلب القارب فينا، لكي نحاول أن ننقذ من عالمنا ولو القليل، سنروي في هذه المحاضرات الثلاث أكثر من قصة للإرهاب.
* مدخل المحاضرات الثلاث التي سيلقيها الكاتب في هذا الشهر في أكاديمية مدينة غراتس النمساوية
في رأس الإرهاب*
[post-views]
نشر في: 12 إبريل, 2016: 09:01 م