أمسِ، حين مررتُ بكَ، وقد هدتك الحمّى، كنت رأيتك، وأنت تشبك أصابعك على السرير الجريد، أعلم أنه لن يهجرك، لكنني خشيتُ منك أن تهجره. لأن صورة الموت ظلت مرسومة على جبينك، وانت تهجر وتتعرق. كنت ترتجف، فيختضُّ السرير، وكنت تجاهد كيما تكون متماسكاً، لكن حرارتك المرتفعة مع المطر والبرد والريح التي تعصف وراء البيت، جعلت منك فلاحاً آخر، معلّم فلاحين، حتى أنني نسيت جرأتك وأنت تطارد سرب الخنازير الوحشية، التي اخترقت بيتكم. لا أعرف كيف غابت عني صورتك، وأنت تقتحم عليها دائرتها، وسط الحوش وتوسعها ضربا بدبوسك الخيزران، ياه.. لكم كنتُ أخشى عليها من قسوتك.
جئت لأخبرك بان جسر باب سليمان، جسرها العثماني، تفكك الكثير من أخشابه، سقط بعضه في الماء، أخذه المد. بعد أن انحلت مساميره الصدئة، وهوى. كنت أود أنْ أصحبك الى دائرة القائمقام، نستنهض فيه ما ظل من عزم، عله يفعل شيئاً ، علنا نذكّره بان الملك فيصل الثاني عبر من هنا، مرّ بموكبه عليه، وأنه أكبر بأهلنا روح الغرس والسهر على السدود وبناء الجسور وتشييد القناطر. كنت واحدا من هؤلاء وكذلك أنا، فقد زرعنا العنب والرمان والدفلى على جانبيه، لكي يمر موكبه، لكنني حين رأيتك على الحال التي كنت عليها لم أجرؤ، اكتفيت بوضع يدي على جبهتك، ومن رفٍّ أعلى خزانة ملابسك ناولتك زوجتك حبّة الكنينا، قلت بأنها أخذتك الى توما هندو، طبيب حمّى البصريين جميعاً، وأنه أعطاك منديلا من ورق شفيف قال ضعي الثلج على جبهته وليشرب الحليب. أشربتَ الحليب، أوضعت الثلج على جبهتك؟ أشرتَ لي أنْ، نعم. وسحبتَ اللحاف على رأسك.
قد لا يعني سقوط جسر باب سليمان للقائمقام شيئاً، وقد لا يعني سقوط قبة أبي الجوزي له شيئاً أيضاً، مثلما لا يعني أحداً في حكومتنا الدينية فقدانُ طريق ابي الخصيب لهويته الجنوبية، وقد التهمت العشوائيات جانبيه، واقيمت عليها المخازن والمحال التجارية، ومثل ذلك نقول لا يعني أحداً غلق مكبس بيت مارين وجرداغ حجي نعيم ونسيان الناس لدورة ام زبالة ومرقد ابي الحمد وقصر بيت النقيب وضريح سيد حامد ومقبرة سيد غريب وجسر مهيجران وخزان الماء الذي في الصنكر واستحالة انبات شجرة الهنبة، وميلان رؤوس نخيل البرحي وغرق مئات اللجنات وهجرة آلاف الناس من اهلنا وتفرقهم في البلاد وخارجها، وتدفق الهاربين من معارك قبائلهم واستقرارهم بيننا، بأسلحتهم التي صارت تصوّب لصدورنا في مناسبة وغير مناسبة، وقد جرّفت مئات الآلاف من الدونمات الزراعية، وقد لا يعني انتشار الجرب والنكاف وأنواع الأمراض بين أطفالنا بعد أن رُدمت الأنهار وتحولت الى قنوات لصرف المياه الثقيلة والخفيفة ... أقول جازما: هذا كله لا يعني أحداً، إنما يعنيني ويعنيك، نحن، الذين شهدنا جمال الأشياء تلك، ذات يوم .
كنت وددتُ ان أطلعك على أقلام السدر التفّاحي، تلك التي أهدانيها ابن عمك، عبد الرحمن. لا، بل وددت أن تكون أنت من يأخذ على عاتقه تطعيم أشجار السدر التي عندي، يقول أبي بان: البركة تحلُّ بين يديك ساعة تطعّم وساعة تغرس وساعة تبذر. ولا يخالجني شكُّ في سلامة قلبك وصفاء نيتك وصدق دعائك. هكذا كنت أحدث نفسي، وأنا امسح بالخرقة البيضاء الباردة على رأسك المحموم. وأنا اعبرُ جسر باب سليمان الخشب، قافلا، عائدا منك. ذاك الذي ما كنت لأعبره وحدي لولا أنك ما تزال شاحباً على سريرك الجريد.
محموماً، على سرير الجريد ما تزال
[post-views]
نشر في: 12 إبريل, 2016: 09:01 م