الاعتراف بوجود المشكلة، كالاعتراف بالخطأ، فضيلة، بل إنه، زيادة على ذلك، يقطع نصف الطريق المؤدية إلى حلّ المشكلة، أما النصف الثاني من هذه الطريق فيمكن قطعه بإدراك طبيعة المشكلة. وبالطبع فإن هاتين الخطوتين (الاعتراف بالمشكلة وفهم جوهرها) لن يُنجزها إلا عقل سليم.
ما الذي جرى ويجري في العراق؟ وكيف جرى؟
الحاصل الآن هو مشكلة سياسية كبيرة، حادّة ومتفاقمة. المشكلة ناجمة عن نظام المحاصصة الذي اخترعته قوى سياسية اختارها الأميركيون وحلفاؤهم البريطانيون ودفعوا بها إلى سدّة الحكم في عراق ما بعد صدام حسين. هذه القوى في معظمها إسلامية، شيعيّة وسنيّة. النظام الانتخابي الذي ابتدعته هذه القوى بمساعدة الأميركيين والبريطانيين يضمن لها التحكّم بالعملية السياسية واحتكار السلطة إلى الأبد( راجعوا قانون الانتخابات وقانون الاحزاب مثلاً، ووضع الهيئات "المستقلة").
هذه القوى تعاملت مع الدولة التي أدارتها بوصفها غنيمة والمال العام باعتباره أسلاباً، فتنافست وتصارعت في ما بينها، كما الضواري الجائعة، للاستحواذ على أكبر حصة من الغنيمة والأسلاب.. معظم الذين اختارتهم هذه القوى لتمثيلها في الحكومات المتعاقبة( وزراء ووكلاء وزارات ومدراء عامين ودبلوماسيين وسواهم من أصحاب الدرجات الخاصة) كانوا غير أكفاء، بلا خبرة، وفاسدين في الأساس أو فسدوا لاحقاً. هذه القوى تمسّكت بهم لأنهم كانوا يضخّون الأموال التي يسرقونها إلى زعمائهم وقيادات أحزابهم، فضلاً عما يخبّئونه لأنفسهم .. على هذا الغرار كانت الأغلبية الساحقة من أعضاء مجلس النواب ومجالس المحافظات في دوراتها المختلفة.
صراع الضواري دفع هذه القوى إلى فتح أبواب أحزابها أمام حثالة المجتمع، بمن فيهم حثالة حزب النظام السابق وأجهزته القمعية، لتوسيع قاعدتها الانتخابية. وإلى جانب ذلك لم تتردد هذه القوى من التلاعب بالعملية الانتخابية وتزوير نتائجها، مستندة إلى عناصرها في أجهزة الدولة وفي مفوضية الانتخابات. وتذرّعت هذه القوى على الدوام بـ "الاستحقاق الانتخابي" وبـ "الاستحقاق المكوناتي" لتكريس نظام المحاصصة الذي مكّن قيادات هذه القوى وحاشياتها ومرتزقتها من السيطرة على مصادر السلطة والنفوذ والثروة، في مقابل حرمان ملايين الناس من أبسط حقوقهم، وبالأخص على صعيد فرص العمل، فمئات الآلاف من الخريجين يُتركون سنوياً للبطالة، بينما توفّر القوى الحاكمة الوظائف لعناصرها والمتزلّفين لها، حتى بتزوير الشهادات والوثائق وبخرق القوانين والضوابط الإدارية.
نتيجة هذا كله تحوّل جهاز الدولة، المدني والعسكري والأمني، إلى بؤرة فساد قلّ نظيرها في العالم، فاخترقَنا داعش وصولاً إلى بوابات بغداد. والنتيجة أيضاً تحوّلنا إلى دولة فاشلة غير قادرة على القيام حتى بأبسط واجباتها حيال شعبها، وأبسط هذه الواجبات هو تأمين الخدمات العامة كالكهرباء والماء والصرف الصحي والنظافة، فضلاً عن الصحة والتعليم.
ما كان يمكن للناس، المصادرة حقوقهم والمسروقة لقمة عيشهم والمنتهكة كرامتهم، أن يسكتوا إلى الأبد. انفجر غضبهم تظاهرات واعتصامات، وجعلوا من إلغاء نظام المحاصصة شعاراً رئيساً لها، لأنهم يُدركون أنه مصدر كلّ الشرور.
هذا هو الحاصل الآن، وهذه هي المشكلة التي لا تريد القوى الحاكمة الاعتراف بها ولا إدراك طبيعتها، لأنها لا ترغب في فقدان مراكز السلطة والنفوذ والثروة التي يؤمّنها نظام المحاصصة لها.
هل ستعترف القوى الحاكمة، وهي إسلامية في الغالب، بما اقترفته من أخطاء وخطايا على مدى السنين العشر الماضية؟ .. هل تعترف بأنّ ما تواجهه الآن هو مشكلة كبيرة وحادّة ومتفاقمة واجبة الحلّ فوراً؟ وهل تُدرك طبيعة هذه المشكلة لتقطع كلَّ الطريق المُفضية إلى الحلّ؟
أشكُّ وأشكُّ وأشكّ..
هل يعترفون؟
[post-views]
نشر في: 17 إبريل, 2016: 06:26 م
جميع التعليقات 1
محمد سعيد
كلام صائب