1-7
على عكس المدن الثلاث الأخرى، المعروفة في العراق، الموصل والبصرة وأربيل، التي لا تعادل بغداد في كبرها طبعاً، لم ترتبط مدينة بغداد، التي بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 762م، بتاريخ قديم له علاقة ببلاد وادي الرافدين، كما كانت التسمية القديمة لعراق اليوم، أو أرض السواد (التسمية اللاحقة) التي نشأت عليها بغداد. كأنها أرادت أن تكون شاهدة على بزوغ حضارة خاصة بها لوحدها، لا تغرف من تاريخ قديم. كأنها بذلك أرادت تأسيس تاريخها الخاص بها، سيرتها المتميزة، الانطلاق من الصفر حقيقةً. ليس من المصادفة أن الصفر هذا بالذات، الصفر الذي يعود اختراعه إلى آلاف السنين، أصبح هو الآخر مثلها عابراً للأماكن والعصور، أولاً منذ أن جعله الخوارزمي عدداً مهماً في العمليات الحسابية، أيام كان في بغداد.
ثلاث مدن كبيرة كانت مواقعها معروفة، هي البصرة إلى الجنوب من بغداد، والاثنتان الأخريان، الموصل وأربيل، إلى الشمال منها، لكن رغم ذلك فضّل ثاني خليفة عباسي؛ أبو جعفر المنصور، البحث عن مكان جديد، بل إنه لم يفكّر حتى بموقع آخر يبعد ستين كيلومتراً لا غير إلى الجنوب من بغداد لكنه يقع على نهر الفرات وليس على دجلة كما هو موقع بغداد، أقصد مدينة بابل التي هي بالإجماع أقدم من المدن الثلاث الأخرى، لا مدينة أقدم من بابل في وادي الرافدين باستثناء مدينتي أوروك (الوركاء) وأور السومريتين. لا أعرف الطريق الذي اتّخذته جيوش بني العباس عند زحفها على الدولة الأموية وإسقاطها، بالتأكيد لم يكن الموقع الذي قرر أبو جعفر المنصور بناء مدينته عليه، الموقع الوحيد المحتمل أن تنشأ عليه العاصمة الجديدة. أخوه الأصغر منه بست سنوات، الذي سبقه بتسلّم خلافة إمبراطورية بني العباس، والذي لم يسمَّ جزافاً بأبي العباس السفاح، لكثرة ما سفح من دماء وقتل، كما يعني لقبه في اللغة العربية، اختار مكاناً آخر ليتخذه عاصمةً له، مكاناً بعيداً عن بغداد، أطلق عليه اسم «الهاشمية»، هو الكائن عند الموقع الذي كانت عليه مدينة «فارة» سابقاً، المشتق من الاسم الروماني القديم «فييرا» دليل على قدم البلده من الفترة الرومانية. أبو جعفر المنصور وبضربة واحدة قرر بناء عاصمة جديدة تبعد عن عاصمة أخيه السفاح قرابة 800 كيلومتر. كم يبدو الأمر غريباً عند معاينته للوهلة الأولى! لكن نظرة متفحصة واحدة لما أراده وخطّط له الخليفة تبيّن أنه لم يأتِ عبثاً.
كتب التاريخ كلها تتفق على أمر واحد؛ هو أن بناء بغداد جاء من رغبة الخليفة أبي جعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي كثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، مدينة تتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، وهذا ما جعله – كما يقولون – يختار «بغداد» على شاطئ دجلة، ليضع بيده أول حجر لبنائها سنة 762م. بعد أن جلب عدداً من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، ساعدتهم في ذلك أعداد كبيرة من أكثر البنّائين والصنّاع مهارةً، ليس من الغريب أن ينتهي بناء المدينة بزمن قياسي إذا عرفنا تقنيات تلك المرحلة من الزمن. فبعد أربع سنوات فقط من وضع أبي جعفر المنصور حجر الأساس لها، انتهى البناء منها لتصبح مدينةً جاهزةً لانتقال الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة إليها، ولتصبح منذ ذلك الحين عاصمةً للدولة العباسية. ولم يكتفِ المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة (ما يُطلق عليه اليوم «الكرخ»)، بل عمل على توسيعها بعد سنتين، أي عام 768م، بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي.
المدينة الغريبة في المكان الغريب
[post-views]
نشر في: 19 إبريل, 2016: 09:01 م