منتصف العام 1967 كمنت كتيبة صغيرة من الجيش البوليفي لمجموعة من ثوار العصابات ، ممن جاءو لمناصرة جيفارا في حربه ضد الامبريالية ، كان الشاب دوبرية قد رمى متع باريس ولياليها الساحرة وراء ظهره ، متجهاً صوب كوبا حيث يبدأ أولى
منتصف العام 1967 كمنت كتيبة صغيرة من الجيش البوليفي لمجموعة من ثوار العصابات ، ممن جاءو لمناصرة جيفارا في حربه ضد الامبريالية ، كان الشاب دوبرية قد رمى متع باريس ولياليها الساحرة وراء ظهره ، متجهاً صوب كوبا حيث يبدأ أولى رحلاته في عالم الثورة الضاجّ بالمواقف والحروب والسجالات.. ابن العائلة الثرية لم يحمل معه سوى حقيبة ملابس ونسخة فرنسية من الملك لير لشكسبير ..هناك تبدأ رحلته الأولى في الجبال والأدغال ، بعدها نجده في زنزانة صغيرة يقف قبالته الكولونيل اندرية سيليش الذي حضر مسرعا لأن مساعديه أخبروه أنهم ألقوا القبض على قائد المجموعة . في الزنزانة الصغيرة يدور حوار مدته اكثر من ساعة بين الأسير والضابط الاميركي الذي اثار استغرابه ان ينضم شاب ينتمي الى الوسط البرجوازي الى مجموعة من العصابات . وفي مذكراته التي نشرها بعد سنوات نقرأ ملخصا لما دار:
• هل تشعر بالندم؟ قال الضابط
- ما الذي بوسعنا ان نورث الارض سوى أجسامنا المخلوعة ..هكذا يقول شكسبير ، يجيب دوبريه .
وفي الزنزانة التي دخل إليها سجيناً يجلس دوبريه ليعيد قراءة شكسبير من جديد . كان أول ما طلبه ان يحصل على نسخة من مؤلفات كاتبه المفضل هذه المرحلة العصيبة من حياته في المعتقل يدوّنها دوبريه في كتاب صغير اطلق عليه اسم "مذكّرات برجوازي صغير" . يبدأ الكتاب بعبارة مقتبسة من شكسبير:
اعطني المرآة وفيها ساقرأ
ألم تعمق الغصون بعد ، هل أنزل الحزن
هذه الضربات كلها على وجهي هذا
ولم يترك جروحا أعمق
يكتب دوبريه فيما بعد : "انني ممتن لرفقة شكسبير خلال سنيّ السجن الاربعة ، لقد تعلمت منه اننا جميعا بشر ننام ، ولانستطيع النوم ، نحيك المؤامرات ثم نذهب الى العشاء مطمئنين .
في عام 1982 كتب دوبريه مقالا كان قد أعده اثناء فترة السجن كما يخبرنا في مذكراته ووضع له عنوان "كيف تقرأ شكسبير" ، يقول فيه : "هناك كتّاب متميزون بأن لديهم قدرة على ان يسحروك ويجعلوك تهيم بهم أمثال دانتي وبلزاك وسيرفانتس ، اما شكسبير فلديه اهتمام آخر اكثر من ان يجعلك تهيم به ، هو اولا وقبل كل شيء الانسان . ورغم ان شكسبير ما كان ينبغي ان يكون كاتبا دنيويا فإنه يبدو لي المنافس الاكبر لكل حكماء البشرية ، ليس هناك أشد غرابة او أشد روعة من أنك حين تنحني بعيدا عنه ، تجد ان هذا الكاتب الذي هو أبرع من يقدم المتاهة والتسلية ، يزودنا برؤية بديلة ومتعمدة لما هو موجود من الكتب المقدسة عن الطبيعة البشرية ومصير الانسان ، هكذا نرى هاملت ولير وريتشارد وعطيل يتحدثون بحكمة ، ان قدرة شكسبير على الاقناع قدرة هائلة لأنه الأغنى على مر العصور."
************
لا أذكر عدد الكتب التي قرأتها أو تصفحتها عن شكسبير (أو الشيخ زبير مثلما كان يصر الراحل صفاء خلوصي على أن يسميه).. ولكنني أتذكر أنني منذ سنوات لم يمر أسبوع دون أن تطالع عيناي كتابا جديدا عن هذا الشيخ الذي تنكّر لعروبته ، كما أراد أن يقنعنا العقاد.. وجميع هذه الكتب تتحدث عن سر هذا الرجل وكيف أنتجت "قريحته" كل هذه السطور والعبر والمشاهد والمواقف التي لم تستطع اربعة قرون أن تطويها في جب النسيان. ويحدثنا لويس عوض في كتابة الممتع "رحلة إلى شكسبير" أنه استطلع آراء عشرات البريطانيين كان معظمهم يعتقد أن شكسبير قناع لأكثر من مؤلف، إذ لا يمكن لرجل واحد أن يمتلك كل هذه القدرة على تصوير الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد، فهو مثل كلكامش رأى كل شيء وكتب عن الضعف الإنساني والحب والجريمة. والغريب ان دراسات كثيرة ظهرت تشكك في الصورة الشهيرة المنشورة لوليم شكسبير ، من انها قد تكون لشخص اخر ، ومنذ اكثر من مئتي عام والباحثون يدرسون كل ورقة يعثرون عليها في بلدته ستراتفورد ، عن حياته ، والملابس التي كان يرتديها ، بل ان هناك كتابا خُصص لنوع الطعام الذي كان يتناوله صاحب هاملت ، والبعض الاخر راح يحصي الكلمات التي ادخلها شكسبير الى اللغة الانكليزية ، وذهب البولوني يان كوت ليحصي عدد الدراسات التي كتبت عن مسرحية هاملت لوحدها فوجدها تعادل ضعف دليل التلفون لمدينة مثل لندن . ليس هناك انكليزي من لحم ودم كُتب عنه بقدر ما كُتب عن شكسبير ، تفاسير وشروحات وتعليقات لاتعد ولاتحصى ، واسمه يعني شيئا ما حتى لأولئك الذين لم يقرأوا كتبه ولا شاهدوا يوما مسرحياته ، أجيال عديدة رأت صورها وأحلامها وطموحاتها في مسرحياته ، ودائما يطرح السؤال : كم من شكسبير فينا ، وكم منا نحن فيه ؟
يطرح شكسبير مواضيع كثيرة ، فيها سياسة ، المقارنة بين القوة والأخلاق ، وفيها بحث عن العدالة الاجتماعية وغاية الحياة ، فيها مأساة الحب والدراما العائلية ، وفيها نظر في المشكلات الفلسفية والميتافيزيقية ، وفيها كل ما نشاء ، بما في ذلك التحليل النفسي ، والكوميديا ، والطب والهندسة والرياضيات والتاريخ، وللقارئ ان يختار وفق إرادته ، ولكن عليه ان يعرف كيف يختار .
كتب برتولت برشت في "الأرغانون الصغير للمسرح" والذي ترجمه الى العربيه الراحل الكبير والمنسي يوسف عبد المسيح ثروت : " كان شكسبير يعي حاجات عصره ويدرك ان الحروب تجلب المآسي ، وجيوشا تجتاح البلدان وحروبا عدوانية وعجز العقل " .
حين وصل شكسبير الى لندن اول مرة ، لم يجد المال الكافي الذي يؤمن له سكنا مستقلا فأقام مع أحد أقاربه ، كان عمله الاول في المسرح ملقناً ، ويقول كاتب أقدم سيره له انه : "عُرف اول ما عرف باعتباره ملقّناً وأحياناً منادياً على الممثلين ، او منقحاً لمسرحيات اشخاص آخرين ، هذا ما تنقله سجلات مدينة ستراتفورد . ويخبرنا احد كتاب سيرته ان شكسبير الشاب كسب عيشه من حراسة جياد المسرح ، وهناك امر كان يعاني منه شكسبير انه لم يدخل الجامعة ، وكان البعض ينتقد افتقاره الى التعلم ، اراد ان يجرب حظه في الشعر فعرض أبياتا على صديقه الكاتب المسرحي توماس كيد الذي نصحه ان يهتم بتلقين الممثلين افضل . حتى عام 1859 لم يظهر اسم شكسبير على اي من اعماله التي قدمها للمسرح ، وحين نشرت مسرحيته "كوميديا الاخطاء" في اول طبعة لها كتب على الغلاف الداخلي : "صححها حديثا واضاف اليها .و. شكسبير " . في ذلك الوقت كان قد مضى على وجوده في لندن اكثر من عشر سنوات ، وكانت شهرته ككاتب مسرحي تزداد يوما بعد اخر حتى حل عام 1592 ليظهر اسم شكسبير لاول مرة على مسرحيته "هنري السادس" والتي كتب عنها الناقد الفني آنذاك روبرت جرين اول مقال عن مسرح شكسبير اكد فيه ان بريطانيا استطاعت اخيرا ان تنجب كاتباً بحجم الروماني سنيكا .
************
ما زلت أتذكر المرة الاولى التي شاهدته فيها وأتمثل الآن تفاصيل هذا اللقاء الذي تم في مكتبه "دار الكتب القديمة" الكائنة آنذاك في شقة وسط شارع الرشيد يملكها رجل شديد الشّبه بيوسف عبد المسيح اسمه "يوسف عمانؤيل عبد الاحد" يكنّى بأبي يعقوب، كان هذا الرجل مسيحيا آخر ترك الوظيفة العسكرية ورتبها الفخمة ليتفرغ لمعشوقاته الكتب حين قرر ان يفتح مكتبة أشبه ما تكون بملتقى للمثقفين وطالبي المعرفة، كتب بأثمان رخيصة تصل أحياناً الى حد المجان والرجل فرح بما صنعت يداه، لم يكن يعرف لأي مذهب ينتمي طلاب هذه المعرفة، هناك كان صاحبنا عبد المسيح يفترش الارض وحوله عدد من الكتب يتصفح بها يدقق في العناوين وينظر في المحتويات ثم يضع الكتاب جانباً حتى تحول المكان حوله الى أكداس صغيرة من الكتب . اقتربت منه ، لم ينتبه لوجودي ولكن حالما مددت يدي الى احد الكتب حتى رفع وجهاً يذكرك بهدوء بغداد، بطيبتها واستقرارها بانبساطها وامتلائها وعينين كعيني العارف لا تخطئان مرامي محدثها أبداً..كنت في ذلك الوقت ،نهاية السبعينات، مغرماً بقراءة كتاباته التي قدم فيها شرحاً وافياً عن مفهوم الحداثة ، وكانت مقالته الي نشرها عن شكسبير في مجلة الاداب منطبعة في ذاكرتي ، فهذه المقالة الرائدة في التعريف بالدراسات الحديثة عن المسرحي الشهير فتحت الطريق امامي لمعرفة معالم واتجاهات مسرح شكسبير .. كان ذهني مشغولاً بأسئلة كثيرة كنت اريد ان أطرحها على هذا الرجل الجالس أمامي ، لكنه ما ان تحدث حتى تبخر كل شيء فاكتشفت انني مأخوذ بسحر الحديث أمام رجل يحسن اختيار مفرداته، هادئ، ودود، فيلسوف متمرد، يتحدث في كل موضوع فيجيد الحديث.. يناقش فلا يمل النقاش.. واحد من المتعطشين للمعرفة وكائن أتعبه البحث عن الكتاب وذبلت عيناه وهو يتسامر مع سحر الكلمات مسكوناً بالمعرفة وشغوفاً بكل جديد.. يؤمن بأن الثقافة حياة للشعوب. في تلك السنوات من عمر العراق كان يوسف عبد المسيح ثروت أثراً شاخصاً من آثار بغداد مثل شارع المتنبي، ومقهى البرلمان، ومكتبات شارع السعدون التي يحفظ كتبها واحداً واحداً، كان أشبه بسقّاء من سقاة بغداد، يملأ جراره بماء الثقافة ليدور بين الناس، ساعيا إلى ان يزرع الارض بكل ما هو خير وجديد.جاء عبد المسيح من ديالى الى بغداد بناء على دعوة من جبرا ابراهيم جبرا الذي توسم في كتاباته وترجماته أثراً طيباً، كانت ديالى التي غادرها اشبه بعالم صغير جميل، مختلط وملون، ففي هذه المدينة الصغيرة عاش المسلمون باختلاف مذاهبهم وأطيافهم ، عرباً وكرداً وتركماناً جنبا الى جنب مع مسيحيين ويهود، كان والده أشهر فرّان في بعقوبة، الحاج عبد المسيح، وسوف يكسب ابو يوسف كسباً حقاً، يمكنه من تعليم ابنه حتى يتخرج في الجامعة، وان يشتري للعائلة جهاز راديو يأخذه يوسف كل مساء الى سطح البيت ليستمع الى محطة البي بي سي والتي تبث برنامجا عن تعلم الانكليزية ، ومنها يتعرف للمرة الاولى على كاتب اسمه شكسبير يتغنى ممثله المحبوب أرسون ويلز بأبيات من مسرحياته الشهيرة ، ليقرر فيما بعد ان يقرا شكسبير بلغته الاصلية وان يتتبع سيرة هذا الساحر الانكليزي وان يترجم اول مقال للعربية بعنوان "شكسبير عبثيا" .
************
يكتب تولستوي في مقال شهير عن شكسبير منتقدا الهوس الذي اصاب الروس بمسرحيات هذا الانكليزي :"مهما قال الناس عن شكسبير ومهما كانوا معجبين بأعماله ومهما كانت الميزات التي يمكن ان ينسبوها الى هذه الاعمال فمن المؤكد ان شكسبير – هذا – ليس فنانا وان أعماله ليست أعمالا فنية ."
ويذهب تولستوي بعيدا في نقده : "وقد يقول المعجبون بشكسبير يجب ان لا ننسى العصر الذي كتب هذا الفنان اعماله الفنية ، فقد كان هذا العصر من عصور القسوة والاخلاق الخشنة ، كان عصرا من عصور البلاغة والزخرفة اللفظية ، وبعبارة اخرى كان عصرا من عصور التصنع خاصة في الحديث وهي الصفة التي لازمت معظم اعمال شكسبير " .
هذا هو رأي تولستوي في شكسبير، وهو رأي فنان عبقري في فنان عبقري آخر ، وهو رأي يلقي ضوءاً على مزاج تولستوي وذوقه اكثر مما يلقي الضوء على ادب شكسبير ، ومزاج تولستوي وخاصة في السنوات الاخيرة من حياته هو مزاج فنان باحث عن فلسفة او عقيدة شاملة تملأ حياته ، بحيث اصبح يرى ان الفن كله ليس وسيلة للتعبير عن هذه الفلسفة او العقيدة الشاملة وربما من هذه الناحية لايقدم شكسبير شيئا له اهمية بالنسبة لرجل مثل تولستوي تخلى عن أملاكه وقرر ان يترك الكتابة ليهتم بأوضاع الضعفاء والمساكين .
كان تولستوي قد انتهى من رائعته "الحرب والسلم" ، وكان يعتقد ان الانسان لا إرادة له ، ينفذ من دون تفكير. يسير ويقوم وينام من دون نقاش. لا نهاره له ولا غده ملكه. فيما كان شكسبير فنانا يعرف ان الانسان مصدر الخير والشر في ان واحد ، كان تولستوي يريد ان يغير العالم ، وكان شكسبير يريد ان يفهم العالم بكل تناقضاته ، ظل تولستوي طوال حياته مقاتلا شرسا من اجل ارادة الحياة ، وعاش شكسبير حياته متأملا يراقب ويلاحظ ويسجل ما يراه دون ان تراوده لحظة واحدة رغبة في تكسير قواعد هذه الحياة.
************
عرف شكسبير في العراق من خلال ترجمات قدمها المصري حلمي مراد في سلسلته الشهيرة "كتابي" ، وقد قدمها للقارئ باعتبارها قصصا درامية اكثر من كونها مسرحيات ، لكن المحاولة الاولى لتعريب شكسبير في العراق قام بها سليمان صايغ حيث قدم فصلا من مسرحية "تاجر البندقية" ونشرها في مجلته النجم عام 1918 ، وكانت الترجمة اشبة بمحاولة نقل ابيات الشعر الانكليزي الى العربية بقافية موزونة ، وهو الامر الذي وقع فيه المصري محمد فريد ابو حديد حين ترجم مكبث الى العربية . الا ان المحاولة الاولى والجادة لنقل شكسبير للعربية كانت من قبل الشاعر اللبناني خليل مطران والذي يعد رائد الترجمة الجادة لاعمال شكسبير وهي الترجمة التي استهوت الراحل حقي الشبلي ليقدم اول عرض لشكسبير في العراق وكانت مسرحية "يوليوس قيصر" ليصبح شكسبير فيما بعد الضيف الدائم على خشبة المسرح في العراق ولتقدم اعمال من خلال جعفر السعدي وابراهيم جلال وبدري حسون فريد وسامي عبد الحميد ومرسل الزيدي وحميد محمد جواد وصلاح القصب وشفيق المهدي وباسم عبد القهار ومناضل داود وناجي عبد الامير . وليظل شكسبير على قائمة الكتاب الأكثر مبيعاً ، فهو الاستثناء الوحيد الذي حقق مبيعات تجاوزت الأربعة مليار كتاب.