TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مكابدات نائب غاضب

مكابدات نائب غاضب

نشر في: 23 إبريل, 2016: 09:01 م

لطالما يأخذ بعض القرّاء على وسائل الإعلام اعتماد خبطاتها الصحفية وسبقها الإخباري على مصادر ترفض الكشف عن اسمها او هويتها، نظرا لحساسية المعطيات التي يتحدث عنها هذا المصدر.
هذه المؤاخذة تأخذ سياقها الطبيعي والصحي عندما تكثر الصحافة ووسائل الإعلام من الاعتماد على المصدر المجهول، لا سيما تلك الجهات التي تهتم بالفبركات الخبرية وتندرج ضمن أجندات معينة. وبالطبع فإن صحافة الفضائح، المعروفة بالتابلويد، تعتبر البيئة الخصبة لانتعاش المصادر المجهولة بمناسبة او دون مناسبة، فالإثارة هي المعيار الاول، وتأتي بعدها في سلم المعايير، مصداقية المصدر، والتحقق من الخبر.
لكن الصحافة المهنية، التي تتمتع بمصداقية وتحرص على عدم التفريط برأسمالها الرمزي، تضيّق من دائرة تسريبات المصدر الذي يرفض الكشف عن هويته أمام الرأي العام. فهذا النوع من الصحافة المهنية يعتمد معايير صارمة تتضمن فلاتر عديدة لفحص مصداقية وصحة التسريبات التي يدلي بها المصدر. ومن هنا فإن قيمة المصادر المجهولة للمتلقي، المعلومة للصحفي، تختلف باختلاف وسيلة الاعلام وتشددها في التعاطي مع مجساتها العلنية والسرية. في النوع الاول من وسائل الاعلام، لا تكون المصادر ذات مصداقية بخلافها في النوع الثاني فهي ذات قيمة مضاعفة لاسيما في أوقات الأزمات التي تمنع حساسيتها من كشف القناع عن المصدر المذكور.
مناسبة الحديث عن قيمة المصادر المجهولة في صحافتنا، هي الاعتصامات التي بدأها نواب من مختلف الكتل منذ اكثر من اسبوع.
وبعيدا عن الإطار السياسي الذي وضعت فيه هذه الحركة البرلمانية، بين رافض وبين مؤيد، فإن حقيقة مهمة تغيب عن المراقب وهي ان أغلب المعتصمين هم من النواب المشاكسين داخل كتلهم والذين عادة ما يقومون بتسريب طبخات الكواليس السياسية الى وسائل الإعلام تعبيراً عن رفضهم لتلك الطبخات او رفضٍ لاحتكار ١٠ اشخاص على الأقل، هم قادة الكتل، للقرارات والمداولات المهمة وتعمد تغييب إرادة ٣٢٩ برلمانيا. فأغلب الاخبار والمواقف المهمة لا يتم كشفها إلا بواسطة المصادر الواسعة الاطلاع، والمقربة من الكواليس، وليس عبر مؤتمرات صحفية او مقابلات أمام الرأي العام.
هنا، لست في وارد الاصطفاف مع فريق المعتصمين او فريق الشرعية، رغم اعتقادي ان الحراك البرلماني الاخير اقترب بشكل كبير من جوهر الديمقراطية التي تحصر الصراعات السياسية والاجتماعية تحت قبة البرلمان وليس في الشوارع. وهذه نقلة نوعية في الحياة البرلمانية العراقية التي ارتهنت لتوافقات الكتل الاثنوطائفية وتحاصصها على حساب مصالح البلاد العليا لصالح المكتسبات المكوناتية الضيقة.
ما لم يرصده المراقب للحراك البرلماني، في نسقه المضمر، هي روح التمرد التي فجرها سوء تعامل رئاسة البرلمان واستخفافها بممثلي الإرادة الشعبية، وحجم الحواجز التي توضع في طريق مع البرلماني للتواصل مع رئاسة البرلمان. فالنائب اصبح عبارة عن تلميذ ينتظر ان يقوم مدير المدرسة او نائبه قرع الجرس إيدانا ببدء الدوام. ففي جلسة إقالة الجبوري ونائبيه انتظر النواب، الذين جاء بعضهم من خارج بغداد والبعض الاخر من خارج العراق، منذ ساعات الصباح انتظاراً لقدوم رئيس الوزراء لعرض تشكيلته الوزارية، فلم يدخل العبادي الى قبة البرلمان ولم تكلف رئاسة البرلمان نفسها عناء التوضيح للبرلمانيين.
كان يوم ١٤ نيسان موعدا لتفجر غضب عشرات النواب ممن يشعرون بامتهان كرامتهم على يد رؤساء كتلهم، واقتصار التواصل معهم عبر الرسائل النصية SMS التي عادة ما يتلقونها قبل دقائق من التصويت على اي قانون من القوانين.
لقد اسهمت التوافقية التي تبنتها الكتل بتهجين وتدجين الحراك النيابي مؤدية الى تراجع النشاط التشريعي والرقابي من دورة برلمانية الى اخرى. فالوزير لم يعد يرى نفسه في وضع يسمح له بالمثول امام نواب الشعب لاستجوابه حول قضية من القضايا، واضطر البرلمان الى الاستضافة كخيار ملطّف يراعي برستيج الوزير ورئيس الوزراء الذي بات يأنف من الاستجابة للاستضافة واستبدلها بعقد اجتماع مع رئاسة البرلمان او رؤساء الكتل في أحسن الاحوال.
يجب الاعتراف ان برلماننا لا يعيش حالة صحية بالمرة، وان رئاساته المتعاقبة أسهمت بإضعاف دوره بشكل كبير حتى بات غرفة ملحقة لا شغل لها سوى تمرير ارادة السلطة التنفيذية. ويجب ايضا النظر الى اعتصام النواب على انه نوع من انواع الاحتجاج الذي يقوم به نائب لا يشعر بقيمة دوره السياسي، ويتم ابعاده عن معرفة قرار كتلته في هذه القضية او تلك، او يخشى التصريح برأيه وموقفه ويطلب حجب اسمه، ويكتفي بترديد ما يقوله رئيس كتلته او حزبه بطريقة قرقوزية تحرجه امام نفسه قبل جمهوره.
اليوم المصدر المجهول قرر ان يرفع صوته محتجا على التمادي بتهميشه، وقرر ازعاج الكبار المحتحبين عن اعضاء كتلهم في غرف مغلقة وسيارات مظللة، وطواقم سكرتاريا ذوي بأس شديد. اليوم يعبر المصدر عن سخطه بشكل واضح ومعلن، متعمداً الكشف عن هويته، ومتحديا كل وسائل الاخضاع التي جربها الكبار ونسوا ان "العيال" ستكبر وستتمرد على إراداتهم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram