2-7
لم يكتفِ أبو جعفر المنصور عند تأسيسه بغداد بتأسيس مدينة على الضفة الغربية لدجلة وحسب (ما يُطلق عليه اليوم «الكرخ»)، بل عمل على توسيعها بعد سنتين، أي عام 768م، بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سمّاها الرصافة، جعلها مقراً لابنه وولي عهده «المهدي» وشيّد لها سوراً وخندقاً ومسجداً وقصراً، ثم لم تلبث الرصافة أن عُمّرت واتّسعت وزاد إقبال الناس على سكناها، لتصبح بغداد منذ ذلك اليوم، بجزءيها، الكرخ مكان قصر الخلافة (اليوم القصر الجمهوري والمنطقة الخضراء) والرصافة مكان أغلب دوائر الدولة، ثم لتصبح في زمن حفيده هارون الرشيد، الذي عرفه العالم من قصص ألف ليلة وليلة ومن علاقته بالإمبراطور شارلمان (كارل الكبير) إمبراطور الإفرنجة والعالم الكاثوليكي، أكبر مدينة في العالم والعاصمة العالمية للثقافة والعلوم.
بغداد التي ارتبط تاريخها بتاريخ الخلافة العباسية إن لم يكن بتاريخ العالم العربي الإسلامي كله خلال القرون الخمسة من عام 767 حتى 1258م، عام سقوطها على يد المغول بقيادة هولاكو، وهو عام أفول نجمها أيضاً، بصفتها عاصمةً للعالم، كما كانت تسمّى في فترة حكم الخليفة هارون الرشيد وحكم ابنه المأمون، بغداد هذه كانت فريدة أيضاً بطراز بنائها الذي كان على شكل دائري. كانت معظم المدن الإسلامية تبنى إما مستطيلة كالفسطاط أو مربّعة كالقاهرة أو بيضاوية كصنعاء، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن المدن هذه نشأت بجوار مرتفعات حالت دون استدارتها. بناء بغداد بهذا الشكل شكّل اتجاهاً جديداً في بناء المدن الإسلامية تسير على خطى بناء المدينة المدورة (بغداد) والذي هو ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي، لاسيما في المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراء وما حوته من مساجد وقصور فخمة. إلى جانب هندسة العمارة وُجدت الزخرفة التي وصفت بأنها لغة الفن الإسلامي، التي تقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة لكي يبعث منظرها في من يراها الراحة والهدوء والانشراح. وقد سُمّي هذا الفن الزخرفي الإسلامي في أوروبا باسم «أرابسك». وبحسب ما يروي المؤرخون، وحتى إذا كان في ذلك الكثير من المبالغة، لكنه أمرٌ دالٌّ أيضاً، هو أن المنصور «أنفق على مدينة السلام (بغداد) وجامعها وقصر الذهب بها والأسواق والفصلين والخنادق وقبابها وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثين درهماً ومبلغها من الفلوس مائة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس وذلك أن الأستاذ من البنائين كان يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاي بحبتين إلى ثلاث حبات» (تاريخ الطبري، 4/481).
لكن ما يبدو صدفةً للوهلة الأولى، وما لم يتحدث عنه المؤرخون، هو أن رغبة المنصور ببناء بغداد في الموقع ذاك لم يأتِ مصادفة؛ فلا شك أن مناخها المعتدل والموقع الذي بنى المنصور عليه المدينة، وخاصةً قصره، فضلاً عن طرازها المدوّر مع دورة دجلة في ذلك المكان، شجّعه على اختيار ذلك الموقع. لكن السبب الرئيسي وراء قراره كان سبباً آخر – في رأيي – له علاقة بالعقدة التي صاحبت دولة بني العباس منذ تأسيسها؛ أعني عقدة أنهم ما كانوا قادرين لا على إسقاط الدولة الأموية والقضاء على الأمويين، ولا على بناء دولة قوية لاحقاً، خاصةً في تنظيم شؤون كل ما يتعلق بنظام الإدارة والجباية والجيش، دون مساعدة أولاً الجيوش التي قادها أبو مسلم الخراساني ، والتي ضمّت أغلبها جنوداً من بلاد فارس، وهذه هي الجيوش التي هزمت الأمويين وجعلت أبا العباس السفاح أول خليفة عباسي يجلس على عرش الخلافة، ثم، ثانياً، عن طريق عائلة البرامكة الذين أداروا الدولة في زمن الخليفة هارون الرشيد والذين أصبح تأثيرهم كبيراً لغاية أن ليس هناك مشروع في عهد هارون الرشيد أو تجارة أو معاملة في الدولة يتم إنجازها دون التوسط عند أحد من عائلة البرامكة.
يتبع
المدينة الغريبة في المكان الغريب
[post-views]
نشر في: 26 إبريل, 2016: 09:01 م