تميزت الدراما العراقية، التلفزيونية خاصة، ومنذ بداياتها في الخمسينيات بافكارها المحلية ومواضيعها المغرقة بالواقعية وصورها النمطية المكررة، لكنها ظلت تدور ضمن الدائرة الاجتماعية البحتة بتركيزها على معاناة الناس الاقتصادية ومشاكلهم اليومية وهمومهم الحي
حميدة العربي
تميزت الدراما العراقية، التلفزيونية خاصة، ومنذ بداياتها في الخمسينيات بافكارها المحلية ومواضيعها المغرقة بالواقعية وصورها النمطية المكررة، لكنها ظلت تدور ضمن الدائرة الاجتماعية البحتة بتركيزها على معاناة الناس الاقتصادية ومشاكلهم اليومية وهمومهم الحياتية بعيداً عن العواطف والمشاعر الخاصة، التي لا تتفق مع ثقافتهم الاجتماعية وليست جزءا منها.
ولم تجعل من الحب موضوعا اساسيا تتناوله كحالة انسانية قائمة بذاتها، لذا خلت الدراما العراقية، ومنذ البداية، من قصص الحب ـ المؤثرة ـ التي تكون اساساً او محوراً لصراع تبنى عليه الاحداث ويثمر عن نتيجة تكون انتصارا للخير والمحبة، بل قدمت حكايات، تورد في سياق الاحداث كشيء لابد منه، او خط متفرع من صراع عائلي او طبقي.. وحتى في هذه الحالة قدمتها بمعالجات سوداوية ونهايات مأساوية او سطحية، وفي اغلبها لا يتم التركيز على قصة الحب، بل على الاحداث المرافقة لها والحكايات الجانبية الاخرى، فتفقد تلك القصة أهميتها ومحوريتها داخل شبكة معقدة من الاحداث والخطوط، فلا يتذكر المشاهد سوى المشاكل التي حدثت والاشخاص المعارضين. ودأبت ـ الدراما العراقية ـ على تقديم ما يجري في الواقع ـ المجتمع ـ من علاقات، وسلوكيات وعادات.. الخ بطريقة أقرب الى التوثيقية منها الى الفنية.. وعرض ثقافة المجتمع الذكوري ـ المنغلقة والمتطرفة في كل شيء تقريبا ـ الذي لا يعترف بالحب والعواطف ويفهم التعبير عن المشاعر والرومانسية ضعفا وركاكة في الشخصية، فيُعيب على الرجل الاهتمام بالمرأة او معاملتها برقة ولطف واحترام، حتى الأب لا يُعبِّر عن مشاعره لأبنائه او يلاطفهم ـ خصوصا البنات ـ لمنح شخصيته مهابة وصلابة امامهم وكي يورثها لهم مع الزمن، اما المرأة فلا يحق لها الحب، بل ان المجتمع لم يضعها في حسابه، فالقصص كلها تدور حول الرجل ومغامراته ومعاناته ولواعجه، ولهذا كانت قصص الحب في التراث، مثل قيس وليلى وقيس ولبنى وجميل وبثينة.. وغيرها.. ضعيفة دراميا، كونها تتناول طرفا واحدا من طرفي المعادلة الدرامية. فالبطولة فيها، دائما، للرجل فهو الذي يعاني ويغامر وينشد الشعر او يُصاب بالجنون من اجل امرأة شبه غائبة، تبدو غير مبالية وبدون مشاعر لان المجتمع لا يسمح لها بالتعبير عن مشاعرها او اظهارها او اعلانها ويتم التركيز فيها على الشعر او الأثر الأدبي الذي تركه بطل القصة.. وحتى عندما تحولت تلك قصص التراثية الى الدراما لم يحاولوا منح المرأة شيئا من التحدي او المغامرة او الاختلاف، كي تكون ندا، متكافئا، للرجل في تلك المعادلة.. كما فعلت السينما الهندية حين قدمت قصة قيس وليلى، في الخمسينات، وتحت عنوان مجنون ليلى، بمعالجة طبقية اكثر منطقية من القصة الاصلية، حين جعلت والد ليلى يفضل رجلا غنيا لابنته ويرفض قيساً لأنه فقير وعاطل عن العمل، وليلى واجهت زوجها وصارحته بحبها لقيس وأعتقت نفسها. في حين لم يتجرأ احد، من كتابنا، على اعطاء المرأة، في الدراما، ذلك الحق الطبيعي في ان تعبِّر عن مشاعرها بحرية وتبادر بالتصريح بها من دون ان تبدو متمردة او منحرفة.. لذا ظلت المواربة والاسلوب غير المباشر هو المفضل لدى الرجل ـ الكاتب ـ تماشيا مع ارادة المجتمع.. فالرجل يفضل المرأة، المترددة، الاتكالية التي تنتظر منه المبادرات حتى في اظهار المشاعر.. كي يبدو فارسا، شهما، فتكون له الهيمنة والأولوية والقيادة.. والمرأة، ايضا، وبسبب التدجين الفكري والقمع الاجتماعي والعائلي، رضخت لإرادة المجتمع ونسيت او تخلت عن حقها في ان تحب وتختار وتبادر، خوفا من المجتمع وارضاءا للرجل. واستمرت هذه النظرة وهذا الموقف ـ العقدة ـ حتى العصر الحاضر، فما زال المجتمع يُعيب على المرأة التصريح بمشاعرها او يستنكر ذلك، حسب الطبقة الاجتماعية والمكان، وتجلى ذلك كخلل بنيوي في الدراما كونها صراعاً بين طرفين متكافئين لهما نفس القوة والتأثير، يمثلان الخير والشر، ولو افترضنا ان بطلي القصة يمثلان الخير والمعارضين يمثلون الشر فسيكون الصراع ايضا غير متكافئ لأن احد الابطال ـ المرأة ـ معطل وغير معترف به وسيظل الرجل وحيدا يتصدى للمعارضين وهي تنتظر النتائج مسلوبة الارادة والقرار، لذا تظهر قصة الحب باهتة ومفتعلة او مفبركة بلا مصداقية. والدراما ليست استنساخ للواقع، بل تناول لاحداث ذلك الواقع بطرق فنية ومعالجات مبتكرة لا تشترط ان تكون النتيجة متطابقة تماما، مع الحدث الواقعي ما يضفي على تلك الاحداث شيئا من الخيال والشفافية والسحر احيانا وهذا ما ينقص الدراما العراقية ويميزها، اضافة الى انها تفتقر، وبشدة، الى الرومانسية وتميل، بتطرف، الى العنف والتشنج في الطرح والمعالجة ما يجعل قصة الحب خالية من الحب! وعديمة التأثير والديمومة وابطالها يفتقدون الحضور الرومانسي المطلوب. كما في اغلب الاعمال ابتداءً من تمثيليات خليل الرفاعي وابراهيم الهنداوي في الستينات.. وحتى ( عالم الست وهيبة ) وغرائبه في التسعينات وكانت ابرز قصص الحب في الدراما العراقية اذاعية، وليست تلفزيونية او سينمائية، منها ( غيدة وحمد ) و ( عفرة وبدر ) ومن المفارقة ان احداثهما تدور في الارياف، حيث تجد المرأة مجالاً اكبر للتحرك خارج المنزل.
وقصص الحب، على نوعين، قصص واقعية تُعالج باسلوب فني معدل او مطور، مناسب للزمان والمكان الذي جرت به تلك الأحداث، ونوع آخر قصص خيالية، من تأليف الكاتب، يضفي عليها ملامح واقعية ويجعلها ملائمة ومقبولة اجتماعيا، الا ان الكتاب، عندنا، لم يستغلوا ذلك المجال الذي هيأته الدراما لتأليف قصص حب رومانسية مبتكرة بل ظلوا يطرحون قصصهم ضمن مفاهيم المجتمع الذكوري الذي يستنكر الحب ولا يعترف به ويرفض خروج المرأة الى الحياة، وقيدوا افكارهم وخيالهم بقيود المجتمع ورضخوا لإرادته ـ بقصد او من دونه ـ ولم يتجرأوا على مخالفة ما هو سائد او يفكروا بالتحدي او التصدي لهيمنة الافكار البالية والنظرة المتخلفة للعلاقة بين المرأة والرجل! ولأن المجتمع الذكوري، مجتمع قائم على قطب واحد هو الرجل، ومكبل للقطب الآخر ـ المرأة ـ ويعاملها بتفرقة وتناقض واضح، يخاف منها ويحرص عليها، يخاف من ذكائها وسعة مخيلتها وابتكاراتها وابداعاتها لو أُعطيت الفرصة الكافية والحرية المطلوبة.. ويحرص عليها لتبقى ضمن ممتلكاته ورهن اشارته وطوع اوامره. لذا فالرجل، في هكذا مجتمعات وضمن تلك المفاهيم، هو مَن يحق له ان يحب ويختار وهو من يملك الحرية في المبادرة والمصارحة والاعلان وهو مَن يحاول الحصول على المرأة بالطريقة التي تناسبه وهو المسؤول الاساسي في مشروع الزواج، في النهاية، اما هي فتبقى ذلك التابع والمتلقي والمنفذ، ولو تجرأت وبادرت بالتصريح بمشاعرها فربما يسيء الظن بها وتتغير مشاعره ونواياه وقد ينسحب كليا.. وهذا ما ترسخ وتعمق بعد عام 2003، ومعه انحازت، الدراما العراقية ـ وبشكل واضح ـ الى العنف والمبالغة في معالجة وطرح الاحداث وابتعدت كثيرا عن المواضيع الاجتماعية البحتة وخلت من تلك الرسائل الاجتماعية، الايجابية، والمواقف الانسانية التي ميزتها في بداياتها ـ كالتعاون والتعاضد والمودة بين ابناء المنطقة الواحدة ـ وركزت على القتل والخطف والتعذيب ونشر الأفكار البالية والعادات المتخلفة، وابطالها من رجال العصابات والسجانين والمزورين وما شابه، تماشيا مع ارادة الجهات المنتجة واصحاب الفضائيات.. واغلب القصص التي قُدمت اكدت غياب الحب الحقيقي وانعدام الرومانسية، وتراوح تأثيرها بين الباهت والعنيف والسطحي مثل ( دنيا الورد ) ( اعلان حالة حب ) و( حب وحرب ) وظلت موضوعة الحب ـ كحالة انسانية واجتماعية مؤثرة ـ هامشية تُطرح كخط ثانوي متشابك مع خطوط اخرى رئيسة وفرعية، وصار المشاهد العراقي ـ الذي يفتقد الحب في بيئته ـ يتابع بشغف قصص حب اجنبية، ويتفاعل معها لكنه يعزف عن مشاهدة قصة حب محلية، غير تقليدية، بدعوى انها غريبة على عاداتنا وتقاليدنا ولا تناسب مجتمعنا، الذي اصبح اكثر انغلاقاً، والذي يسمح بكل شيء.. إلا الحُب!