اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > الفنان مكي عمران.. الجسد يبحث عن ذاته

الفنان مكي عمران.. الجسد يبحث عن ذاته

نشر في: 7 مايو, 2016: 12:01 ص

لم يعد جسد الكائن معروفاً بتفاصيله الآدمية ، وعناصره المانحة له دلالته المعروفة والمألوفة ، والحافظة كل ما منحته الحياة  له من قيم ووظائف . بل ظهر لنا وكأنه مرسوم بيد طفلية ، شغفت بالتشويه وانحراف مظاهره العامة ، القوية ، التي شكلت طاقة الجذب إل

لم يعد جسد الكائن معروفاً بتفاصيله الآدمية ، وعناصره المانحة له دلالته المعروفة والمألوفة ، والحافظة كل ما منحته الحياة  له من قيم ووظائف . بل ظهر لنا وكأنه مرسوم بيد طفلية ، شغفت بالتشويه وانحراف مظاهره العامة ، القوية ، التي شكلت طاقة الجذب إليه . وجعلته مركزاً للإثارة ومكنته من الحضور القوي . ومع كل هذا لم يكن الكائن متماثلاً بالخصائص التي ذكرناها ، بل هو متباين ، مختلف متنوع . هو في كل هذه التباينات ، يمثل فاعلية ، لأن الجسد يمنح الكائن حضوره ، ويشحن كينونته بما عرفت عنه من مميزات ، هذه الكينونة وحضوراتها اليومية ، من خلال تفاصيلها الكثيرة ، المثيرة لمواقف عديدة وردود أفعال ، كلها تضاعف جوهره الحياتي . هذا ما ميز الكائن الذكري والأنثوي ، وكل منهما لا يقوى على انتاج ما يجعله مجالاً قوياً وفاعلاً ، إلا إذا أدرك مجاورة الثنائية بينهما وتعايشهما ، كي يعطيا مفهومهما وما تعنيه وحدتهما التي لا تلغي خاصية كل منهما .

كل هذا الجمال في الحياة وما ينتجه من استحضارات ، انحرف تماماً متشوهاً وجعلنا وسط صدمة ليست لحظته ، بل هي عنيفة ، صدمة ماثلة باقية ما دام المجال الاجتماعي والثقافي حاضراً بقوة تشوهاته. تشوه الكائن ، تدمير لكينونته وفشل وسيلتها الكبرى . وهي اللغة ، فالإنسان لم يعد مثلما كان وخسر نهائياً ما كان عليه من صفات الجمالية والشعرية ، وتحول حضوراً مشوهاً ، ملغياً بالكامل من فضاء المقبول اليومي ، من قبل الآخر ، والمثير للغرائبية الذهاب بعيداً من قبل الفنان مكي عمران ، نحو اللعب بالجسد بكل ما توفر لديه من إمكانات فنية ، وظف اللون وعتماته لبث رسائله . وكانت  اللوحة الأولى ، ذات طاقة مخفية فعلاً وكأن الفنان ذهب باتجاه كل البشر . ليقول لهم ، هذا ما حصل للإنسان . لا احد يصدق تحولات الكائن نحو التشوه الغرائبي فالمرأة الفاتحة ذراعيها لاحتضان كل ما موجود في العالم ، جسدت تشوهات جسدها ، وكأن الفنان مكي عمران راجي أعاد إنتاج احد أهم المقاطع الشعرية للشاعر اراغون عندما قال : " فتحت ذراعيَّ لاحتضان العالم ، فارتسمت على ظهري علامة الصليب " . لقد ارتسم التشوه كله والخراب وليس الصليب على ظهر المرأة التي بدت وكأنها فزاعة ، أو كائن من عالم آخر ، تشوه كل شيء فيها ، حتى رمزها الخصوبي ، وأضفت عليها ألوان وخربشات طفلية أسئلة ، وهذا أهم ما أفضت به لوحات مكي عمران الذي اتسعت فيها مساحة الاستفهام.
ذهب الفنان بعيداً وعميقاً برسائله ، المنقولة عنا وكذلك بحكاياته عن الكورد المرسلة لنا ، ونحن معاً عشنا نوعاً من الدمار والتشوه بعد الخروج بالصدفة من الموت الجمعي . هذا زمن لا يشبه الأزمنة ، لان الرؤى والآمال التبست فيه ، وما عاد الإنسان قادراً على الحياة بأمان وحرية ، بل هو مطرود من محيطه الذي صار أنقاضا ومحترقات وبقايا كائنات مثيرة للفزع . أعادت خبرة الفنان ومهارته اللونية في ترسيم جسد الكائن وإضفاء التشوهات عليه ، من اجل تعطيل كينونته والدفع به نحو هامش لم يكن منتظراً ، إلا في سرديات الذاكرة الجمعية ، سرديات الغرائب ولا معقوليات الأحلام وجوه كائناته مدمرة ، طافرة ، جعلها ملصقة بآلية زادت التشوهات ، لان الفنان يدرك بشكل جيد ، بأن تشوهات الوجه تعني ضياع هوية الكائن . غادر المألوف والمقبول من قبل الآخر " فالمريض يجب أن يرفض هيئته القديمة ، ويتقبل واقعه الحالي ، تحت أنظار الآخرين الذين يشعرون بأنهم منحصرون وراء هذه الإصابات أو التشوهات " .
قدم لنا مكي عمران رسائله عن الإنسان العراقي ناقصة ، ( وهي أيضا رسائل عن الآدمي في كل مكان ) فالوجه وحده الذي يقدم لنا الإنسان كاملاً وجميلاً ومكتفياً بأهم بمكوناته ، انه دال على معنى كمال الجسد ـ كما قال فرنسوا شيرباز ـ واستعداد لممارسة أفعاله الاتصالية مع الكائن المكون لجنسانية حيوية ، فالوجه مكان المثول والحضور ، وهو خصوصية وفردانية الجسد ، ذلك ما يعيدنا الى حكاية نرسيس المتأمل لوجهه في الماء والذي مات غرقاً بعد أن القى بنفسه في صورته .
المرآة / الماء لا يكشفا لنا الوجه الحقيقي ، لأنهما يتعطلان أحيانا . في لوحات مكي عمران ، الجسد مشوش ، ليس في اللوحة فقط ، بل في الواقع أيضا ، وجوه محترقة ، رؤوس منفصلة ، وضعتها الصدفة في مكان أخر من الجسد . وعندما يكون الجسد مشغولاً بالبحث عن ذاته . ومثل هذه اللوحات الاستفزازية ، تضع المتلقي أمام استهداف حقيقي للإنسان ، لا يتوقف ، وكأن العراق تقاسم حصة الدمار والألم والقتل بالتساوي سرديات الفجيعة لا تكف عن تفاصيلها المتماثلة ، لأنها ذات وحدات واحدة ، متماثلة ، لذا السرد فيه لا يغادر الفضاء المألوف ، وكأن كل الناس عرفت حدوده ، وعاشت تفاصيله المروية ... لان الأحياء رواته باستمرار ، والفروق في السرد أن الكائن مختلف بالنوع ، وحضور الطفولة أكثر وأعمق إثارة ، لان تعطلها ، يعني تغيب المستقبل ، وتوقف حركة الأحلام ... الموت فقط ، هو صاحب الحضور ، الملاحق للكائن ، الطارد له ، موت جمعي وخصوصاً وسط الأطفال ، والأشكال الغريبة للفتيان ، تجعلنا أمام فجيعة لا تغادر ذاكرة المتلقي أبداً .
الجسد في لوحاته يبحث عن ذاته . هذا يعني تغيبه وتهميش حضور الموجود من الأجساد . المهم والمثير في تجربة مكي عمران راجي هو تمركز الجسد وتهميش حضوره ، وتغيبه في كثير من اللوحات،  لقد تضاءل دور الجسد ـ ثقافياً ومعرفياً وتلاشت تماماً مقومات كينونته . لان الجسد هو الذات عينها (وتجربته هي تجربة المعيش ، تجربة الوجود في العالم بكل غموضها وترددها وبكل كيفيات التباسها ) .
كتبت في مقالة سابقة عن الفنان مكي عمران واهتمامه بالمحيط والتعامل وإياه رمزياً والكشف عن المدفون في المُعاش ، والعودة للأصول والعتبات الأولى وإعلاء تجوهرات الرموز الأولى ، تمجيداً للمحيط الذي أنتجها لكن معرضه الثالث كان مغايراً تماماً عن معرضه الثاني ، على الرغم من الإبقاء على المحيط ، لكن كان مدمراً مع الكائن .
كنا أكثر اقتراباً مع المحيط في معرضه السابق ، لأنه هادئ وشعري التفاصيل ، ساهم بمنح طاقة الأمل والتفاؤل والعودة الى العتبات الأولى ، ويبدو ذاك المعرض الآن من الترف . لان الموت الجمعي والدمار ، والتغييب القسري عن المكان ، عطل سرديات كانت لها حضور مهم . تمظهرت في لوحات معرض مكي عمران الثالث أساطير وغرائبيات ، لان السرديات التي تضمنتها هذه اللوحات لا تبدو إلا بكونها أساطير أو تصورات عجائبية وتخيلات غير معقولة تماماً .
أخيراً تمكن الفنان مكي عمران وبنجاح من إعادة إنتاج الواقع وتوصيف المحيط ، وتمظهرت كلها عبر الأسطورة والغرائبية . لان المُعاش الآن ، لن يكون إلا هكذا وهذه الأشكال الآدمية المشوهة ، ليست مستدعاة من محيط خارجي ، بل هي نتاج حياتنا وما نعيشه منذ سقوط النظام . الفنان مكي عمران نجح في تمثيلاته للواقع وذهب بعيداً نحو اسطرته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram