القسم الثالث: خطوات نحو فانتازيا منطقية
أثّرت التطورات التقنية الهائلة في الحقبة الواقعة بين الحربين العالميتين تأثيراً هائلاً في رواية الخيال العلمي ؛ إذ لم يعد التفاؤل المسرف "وغالباً المجانب للصواب" والتخييل الفنتازي المفرط اللذان تميزت بهما روايات فيرن هما السمتان الطاغيتان في روايات الخيال العلمي بل اتخذت هذه الأعمال جانب الانحياز الويلزي الواعي - ذي النبرة التهذيبية - تجاه السلوك البشري المتسم بالقسوة والطغيان المدعوم بوسائل السيطرة التي أتاحها العلم الحديث ، ولم يعد الكُتّاب يركزون على محض التنبؤ بشكل المستجدات العلمية والفنتازيات التقنية فحسب بل بانعكاساتها على البشرية - وهو الأمر الذي عبّر عنه "ألدوس هكسلي" بأوضح طريقة ممكنة عندما كتب في كتابه المعنون "أفضل مافي العالم" قائلاً : "إن خير مافي العوالم ليس تقدّم العلم في ذاته بل الارتقاء المستديم للتأثيرات النوعية الإيجابية التي يحدثها العلم في حياة الكائنات البشرية" .
تمتاز حقبة مابين الحربين العالميتين بأن البشر صاروا يشهدون فيها وعلى نحو واسع في حياتهم اليومية بعضاً من المنتجات التقنية التي حكى عنها كتّاب رواية الخيال العلمي سابقاً وأخصّ منها : محرّكات الاحتراق الداخلي التي تعمل بها السيارات والقاطرات ، والتلفون والراديو والتلفزيون،،،، وباتت رواية الخيال العلمي في هذه الحقبة تدعى "رواية الفنتازيا المنطقية" بحسب تعبير الكاتب البريطاني "جون ويندهام" الذي ساهم هو بذاته في تثوير طبيعة هذه الرواية وجعلها أكثر التصاقاّ بالحاجات الإنسانية في الوقت الذي تلبّي فيه تطلعات الخيال البشري ، وقد كتب العالم البارز وكاتب رواية الخيال العلمي ( إسحق أزيموف ) بهذا الصدد قائلاً : "إن مؤلّفي روايات الخيال العلمي عندما خففوا جرعة الفنتازيا المنفلتة في أعمالهم وأكسبوها واقعية أكثر من ذي قبل صار في مقدورهم وصف حواسيب وصواريخ وأسلحة نووية تتشابه كثيراً مع ماتمّ تصنيعه منها لاحقاً ، والنتيجة المستخلصة من هذا أن الحياة البشرية في حقبة الخمسينات والستينات - من القرن العشرين - كانت تشبه كثيراً ماحكت عنه روايات الخيال العلمي في أربعينات القرن ذاته" .
شهدت نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 تطوير واستخدام السلاح الذري الذي كان وسيلة تدمير شامل غير مسبوقة نوعياً ، ومن المثير أن نقرأ في أدبيات رواية الخيال العلمي أن رواية صدرت عام 1944 وكانت وصفت بشكل بالغ الدقة تفاصيل عمل القنبلة الذرية ممّا دفع السلطات الأمريكية ومكتب المباحث الفدرالية إلى إطلاق سلسلة من التحقيقات لخوفهم من احتمالية تسرّب الأسرار النووية التي كانت حتى ذلك الحين تعدّ من الأسرار الستراتيجية فائقة الأهمية والخاصة بالأمن القومي الأمريكي، ويتّضح من هذا المثال كم أصبحت رواية الخيال العلمي آنذاك "رزينة" بحسب تعبير كاتب الخيال العلمي "فان فوغت" الذي كتب في السياق ذاته قائلاً : ( يجب أن تستند رواية الخيال العلمي على علم حقيقي مدعم بتأريخ حقيقي وليس على أحدهما فحسب) .
هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أن العديد من الكتّاب المرموقين كانوا كتّاب رواية خيال علمي أيضاً وأذكر من هؤلاء (أرثر كونان دويل ) مؤلف سلسلة شرلوك هولمز الشهيرة والذي كتب في ميدان الخيال العلمي روايتيْ "العالم المفقود" 1912 ، و "الحزام المسموم" 1913 ، وكذلك الكاتب (إدغار رايس بوروز) مؤلف سلسلة طرزان الشهيرة والذي يعدّ مبتدع رواية الخيال العلمي الأمريكية .
يتبع