قبل كل شيء اود القول اني اعني بتقنية الضرير اسلوبا خاصا في اكتشاف العالم. فاذا كان العمى سورا يفصل الانسان عن عالم الاشياء,فهل يتساوى كل فاقدي البصر بقدر محدد من الشعور والافكار. ولكي يتضح جيدا ما اعنيه بتقنية الضرير اود المقارنة السريعة بين بورخس وا
قبل كل شيء اود القول اني اعني بتقنية الضرير اسلوبا خاصا في اكتشاف العالم. فاذا كان العمى سورا يفصل الانسان عن عالم الاشياء,فهل يتساوى كل فاقدي البصر بقدر محدد من الشعور والافكار. ولكي يتضح جيدا ما اعنيه بتقنية الضرير اود المقارنة السريعة بين بورخس واديب ومثقف تنويري هو الدكتور طه حسين. وفي الحقيقة فإن تأمل ما كتبه طه حسين ومنهجه الفكري سيجعلنا نحتار ونتساءل كيف اختلف طه حسين كلياً عن بورخس على الرغم من انهما ضريران, وعاشا في زمن واحد.
كان طه حسين كاتباً ومثقفاً عقلانياً صارماً يضع الفروض وينقضها,ويؤمن بالنظرية كثيرا.وكان اول منهج اتبعه هو منهج الشك الديكارتي الذي استخدمه في كتابة "في الشعر الجاهلي" المنشور سنة 1926, والذي اثار ضجة كبيرة في مصر قدم بعدها الى المحاكمة,وصودرت نسخ الكتاب من السوق.اذن العقل والفرضية والجدل كانت ادوات عميد الادب في طرح افكاره وآرائه.وكان منهجه التاريخي ومحاولته وضع معايير ذوقية نقدية لتقويم الشعر علامتان على حياة ستبقى تخوض في هذا الفلك العقلاني.نعم كان طه حسين يريد ان يكون تنويريا وواقعيا لذلك لم نر في كتاباته تلك النزعة التخيلية التي تنظر الى كل شيء نظرة وجود معرض للزوال.على العكس فقد شك طه حسين بالشعر الجاهلي لانه اراد ان يصل الى حقيقة هذا الشعر.ومن خلال الشك وجد بعض الشعر الجاهلي الحقيقي بعد ان نفى معظمه.
بورخس لم يفعل هذا الشيء وكان على النقيض من كل العقلانيين الهائمين بحب العقل.لم يشعر بورخس انه قادر على الشك لسبب بسيط هو ان الاشياء واضحة جدا,وانها تمارس عليه ضغطا جبارا يشعره بأنه زائل.لا اعرف لماذا اشعر ان طه حسين كان اقرب الى ارسطو في حين كان بورخس قريبا من كل الوجوديين والمتصوفة.لا يمكن ان يصبر بورخس على الشك في العالم كما فعل ديكارت,او كما فعل طه حسين من بعده.العالم موجود وهو يتكون من النظام والفناء,اعني يتالف من القانون الموجود في بناء هذا الكون وبين الضعف الذي سينتهي به كل شيء.
طه حسين اذن ضرير لكنه عقلاني آمن بأن الحياة تتطلب قدرا كبيرا من العقل ، لكن بورخس الضرير ايضا ادرك ان الحياة تتطلب قدرا كبيرا من التخيل.ومن هنا سار كل من الكاتبين في طريق تخالف طريق الاخر.
كانت حياة الشاعر الارجنتيني اكثر درامية,واكثر ألما,لانها حياة خاضت تجربة العيش باسلوب اطلقت عليه تسمية اتمنى ان تكون موفقة وهي"تقنية الضرير".وهذه التقنية ليست قدرة ذهنية او جدالا فلسفيا قائما على رفض واثبات الفرضيات..واذا كان ديكارت قد امتلك القدرة على الشك في كل شيء حتى في وجوده هو.(1)فان بورخس افتقد هذه القدرة لانه بدأ من النقطة التي شك فيها الفيلسوف الفرنسي ، اي ان بورخس اكتشف وضوح العالم بكل اشيائه,وشعر بذلك التناغم والانسجام بينه وبين كل شيء من حوله.
في (الشاهد) ، وهو نص قصير يشبه القصة القصيرة,وفيه اعتراف صادم يدل على تبجيل هذا العالم وكل ما فيه، يصور بورخس رجلا يتمدد وسط نكهة حيوانات بعينين رماديتين,ولحية شهباء,يفتش عن موت كمن يفتش عن نوم. ومع اشارات ديكورية قليلة يكشف هذه الحقيقة :"قبل الفجر سيموت هذا الرجل وفيه ستموت شهادة العين الاخيرة لتلكم الشعائر الوثنية,ولسوف يكون العالم اقل بؤسا بموت ذلك السكسوني...ما الذي سيموت معي حين اموت..؟ما الشكل المؤسي والفاني الذي سيخسره العالم..؟هل صوت ماسيدونيو فرنانديز..؟صورة فرس اغبر على مصيره الاخرق عند سيرانو"كاراكاس"..؟او حجر كبريت في درج منضدة من خشب الماهوجني..؟(2)
قلت سابقا ان الشعر التفسيري لا وجود فيه للتجريد او للحكم التي يستنتجها الشاعر ويضعها في قصائده كزخارف خارجية.في نص (الشاهد) نجد بذرة شعور منظم وعفوي اضفى على النص بساطته غير المفهومة.هذه البساطة يمكن فهمها على النحو التالي.احس بورخس ان الفناء ليس صفة خارجية للاشياء,بل هو اهم صفة موجودة فيه كانسان.ان الفناء او الموت حالة عالمية وكونية عرف بورخس كيف يعطيها شكلها الحقيقي الواقعي. واذا اردنا ان نفهم نص "الشاهد" فلا بد من ان نقر ان اصل النص وكثير من نصوصه هو هذه العفوية الشعورية المنظمة. وكل ما قيل في النص من تفاصيل تختار على اساس هذا الشعور الواضح. اذن يطبق بورخس اسلوبه المعروف في خصم نسبة كبيرة من الادعاء وتقديم تفاصيل عابرة يختتمها بموته او موت بطل من ابطاله من اجل ان يكون صادقا مع شعوره المتطابق تماما مع صورة الحياة من حوله.
وعلى هذا الاساس لا يوجد تطابق او تشابه بين وجهتي نظر مثقفين عانى كلاهما من حالة فقدان البصر. وكان من المفترض ان يكونا قريبين من بعضهما نفسيا على الاقل.لكن المقارنة التي أجريتها كشفت عن فارق كبير بين اسلوب عيش وتفكير كل منهما.لذا اجد من الضروري الاشارة الى ان ما قلته عن هذين الكاتبين يقودني الى طرح تساؤلات في غاية الاهمية وهي:كيف نعيش الحياة.؟وما هي القوة الخفية التي تتحكم فينا من الداخل فتغير حياة هذا عن حياة ذاك..؟ولماذا لم تشبه حياة بورخس حياة طه حسين مع انهما كانا يشتركان في علة واحدة هي فقدانهما للبصر.ان الاجابة عن كل هذه الاسئلة المحرقة للقلب تتلخص في كلمة واحدة هي ان الشعور لا يبصر بالعيون.فلا يوجد ما يؤكد ان النظر بعينين سليمتين سيؤدي في النهاية الى تقدير جيد للحياة,او فهم العالم فهما عميقا.ان النظرة عملية ميكانيكية تعتمد على نوعية الطاقة الداخلية خلفها.فاذا كان العقل هو الموجه للانسان فان النظرة ستنطلق كالسهم الى هدف محدد,وتكون فكرة الربح والخسارة غاية هذه النظرة.ومن هذا المنطلق نجد ان وجودنا في هذا العالم ليس فراغا نملأه بما نحب من اشياء وافكار.نعم اننا نختار بعض ما نريد ونشعر اننا عشنا كما نحب.كل هذا جيد لكن هذا الشعور ليس منظما بما فيه الكفاية.واذا اردت ان اعرف الشعور المنظم وقد اشرت اليه سابقا لم اجد افضل من قولي انه علاقة شخصية يقيمها الانسان مع هذا العالم الواسع,ويشعر في كل ثانية انه ذرة صغيرة في فضاء مهدد بالزوال والتغير والموت.ان تسميتي لهذا الشعور ووصفي له بانه منظم يعني ان هناك نارا داخلية لا تنطفئ حتى لو استخدمنا كل براعة العقل في التحليل والاستنتاج.اعتقد اني ساحتاج الى شرح مبسط لتحديد ما قصدته.لنقل ان شخصا ما اصيب بحالة حزن شديدة بسبب وفاة امه او طفله وظل اياما يحس بأنه اصبح وحيدا وان فراغا طارئا صدمه. وبمجرد ان يأتي صديق ويشرح لهذا الانسان معنى الحياة وان الموت حق,وان الصبر من اصعب العبادات وانه سيثاب على هذا القدر الذي اصابه,نرى ان الاتفاق سيعقد فورا ويقر ذلك الانسان الحزين ان الحياة فعلا كما قيل له.هذا الشعور الذي خفت وهدأ بعد هذه الجمل العقلية هو شعور خارجي مصدره غياب شخص يشغل مكانا محددا في حياتنا.ومن الطبيعي ان يشعر الانسان انه واجه قدرا صعبا في حال موت عزيز عليه لأن كل شيء سيذكره به.صوره وملابسه وكلامه واشياؤه.وبعد ان يألف الانسان انسحاب ذكريات المتوفي يعود كل شيء الى وضعه الطبيعي ويظل الميت ذكرى عابرة في حياة ذويه.هذه حالة تحدث وتقع في كل زمان ومكان.
ولعل اكثرنا مر بها ويعرف ما اعنيه جيدا.وفي حالة بورخس يختلف الامر لأن الحياة اكبر من ان نضعها في جمل عقلية ونحقنها في دمائنا.ومن هذا المنطلق نعرف الفرق الكبير بين قراءتنا لكتب طه حسين,وما كتبه بورخس.فالاول ذكي موضوعي منطقي يريد ان يجعل القارئ يصدقه,في حين ان بورخس متخيل بسيط يريد من القارئ ان يحس به.بورخس عمل كما اعتقد بتقنية الضرير فاكتشف العالم الذي لم يره الكثيرون رغم انه اعمى.باختصار:الحياة تفريغ لحالات الالم والقلق من خلال استخدام العقل وحيله استخداما قاسيا.