3-4
أبو جعفر المنصور كان من الممكن أن يبقى في الهاشمية «فييرا» العاصمة التي اتّخذها أخوه أبو العباس السفاح عاصمةً، فهي تقع في منطقة مناخها معتدل تحيطها الجبال وإلى غربها وادي نهر الأردن الخصب، لكنه لم يشأ ذلك، لأنه احتاج إلى رمز جديد، رمز قوي وكبير لن يكون بعيداً عن إقليم خراسان الذي زحف العباسيون منه على الدولة الأموية، مكان يكون قريباً من أكبر صرح فارسي، صرح شاهد على حضارتهم وعلى إمبراطوريتهم القوية التي حكمت في وادي الرافدين على مدى قرون.
قبل أبي مسلم الخراساني وتأثير أتباعه على العباسيين، حكم الساسانيون طويلاً وادي الرافدين، وطاق كسرى في مدينة المدائن، أو «سلمان باك» كما يطلق عليها الأهالي اليوم، عاصمة الساسانيين في زمن الإمبراطور خسرو، ما يزال طوقها الضخم (طاك كسرى «طوق كسرى») لا يزال حتى اليوم شاخصاً. المدائن هذه، التي تقع جنوب شرق بغداد ولا تبعد عنها كثيراً (ربما 20 إلى 30 كم)، كانت بالتأكيد علامة تحدٍّ شاخصة أمام أبي جعفر المنصور، ربما رغب بتهديمها، لكنه عدل عن الفكرة، فكر بشكل براغماتي، لماذا لا يبني مدينة تفوقها أبهةً وفخامةً ومعماراً؟ بل لماذا لا يؤسس مدينةً ستكون مركزاً حضارياً للعالم تتفوق حتى على المكانة التاريخية للمكانة التي تمتّعت بها الحضارة الساسانية؟ إنها لمفارقة أيضاً أن أقول إن وجود الرمز الفارسي هذا، المدائن، وطموح الخليفة أبي جعفر المنصور كانا وراء تأسيس مدينة بغداد، والأكثر وراء تأسيس حضارة جديدة ودولة قوية. ألم يتحقق ذلك بالفعل؟ ألم تكن بغداد رائدة في كل شيء حتى في بنائها؟ ألم يفهم الدرس ذلك أيضاً حفيد المنصور الخليفة هارون الرشيد، الذي ستبلغ بغداد في عهده قمة مجدها ومنتهى فخارها، ليس في العمارة فقط، إذ امتدت الأبنية على جانبي نهر دجلة، في الكرخ والرصافة، امتداداً عظيماً، حتى صارت المدينة كأنها مدن متلاصقة تبلغ الأربعين، بل في العلم أيضاً، فالرشيد فهم هو الآخر الدرس هذا: التنافس، وذلك ما جعله يتبادل العلوم والمعرفة مع الملك شارلمان (كارل الكبير) الذي كان ملكاً في أوروبا آنذاك مستفيداً من خبرته.
بغداد لم تولد بالصدفة إذن. ربما فكر أبو جعفر المنصور أن وجود خلافة جديدة يحتاج إلى نشوء مدينة جديدة أيضاً، دون أن يدري أنه بهذا الشكل أسّس تقليداً في العراق؛ بأن كل العائلات أو السلالات التي حكمت بغداد لاحقاً هي سلالات وعائلات غريبة عن المدينة، أقوام قادمة من ممالك وأمم أخرى وإمبراطوريات، أو قادمة من مدن أخرى على الأقل (حتى اليوم، الذين يجلسون في القصر الجمهوري والمنطقة الخضراء في بغداد لا علاقة لهم قريبة أو بعيدة بها)، الكل يريد صناعة مجده الخاص به عليها، كأن هذا هو قدر بغداد، لا خيار لها غير قبول الغرباء، والغرباء هؤلاء، وباستثناءات قليلة، كانوا سبّاقين بزرع الخراب فيها وإشاعة الدمار، عربا وأعاجم، مسلمين وبوذيين، مسيحيين وكفارا، مغولا وساسانيين، أتراكا وحجازيين، بدوا ولصوصا، إنكليز وأميركان، قرويين ومعممين. بغداد أحدث من الموصل والبصرة وأربيل، لكن حجم الخراب الذي عاشته يفوق كل ما تعرضت له ثلاث مدن وادي الرافدين على طول تاريخها الطويل. ألف وأربعمئة وخمسون سنة هو تاريخ بغداد، لكن لو وضعنا الخراب الذي تعرضت له على أيدي الغرباء في كفة ميزان، والخراب الذي تعرضت له المدن الثلاث الأخرى، لما عثرنا على كفة ميزان لإحداهن تقدر على حمل ما حملته بغداد من خراب!
يتبع
المدينة الغريبة في المكان الغريب
[post-views]
نشر في: 10 مايو, 2016: 09:01 م