كان مغامراً ومعقداً للغاية ، هذا ما تضيئه سيرته الضخمة التي أعدتها ش : شاندرلر وترجمها عارف حذيفة . لقد استغرقت فترة اعدادها أكثـر من ثلاثة عشر عاماً ، وحتى الأسابيع التي سبقت وفاته ... وكل سيرته هي حكاياته هو وما دونته ساندلر . كان يختار الأماكن الع
كان مغامراً ومعقداً للغاية ، هذا ما تضيئه سيرته الضخمة التي أعدتها ش : شاندرلر وترجمها عارف حذيفة . لقد استغرقت فترة اعدادها أكثـر من ثلاثة عشر عاماً ، وحتى الأسابيع التي سبقت وفاته ... وكل سيرته هي حكاياته هو وما دونته ساندلر . كان يختار الأماكن العامة للحديث معها ، وعموماً كانت المقاهي والمطاعم وأحيانا في سيارته ، لان هذه الأماكن تثير البهجة في نفسه ، مثلما تكشف طبيعته الواضحة والصريحة .
وما اختزنته شاندلر عبر السنوات الطويلة ، هو أن هذا الفنان العظيم ، كان وظل حالماً واهم ما في حياته هي الأحلام لأنها الحقيقة الوحيدة . لأنه يدرك جيداً ، بأن العقل الباطن مكتظ بغزارة الأحلام ، الفردية أو الجمعية ، في اليقظة والتصورات أو فعل مخياله لإنتاج الأحلام الفنية . وتكاد تكون ترجمته الفنية مرآة لأحلامه التي أعاد أنتاجها سينمائياً ، وهكذا هو فيلليني المهووس بطاقته الفنية ، وتصريحه مرات عديدة بأنه قادر على صوغ أحلام الناس وما يتصوره هو بواسطة الأفلام ، لذا يستطيع قارئ هذه السيرة المثيرة ، أن يقتنع بأن الحياة حلمه الكبير والواسع ، المستمر ، والذي لا يتوقف أبدا ، وأضفى هذا نوعاً من الاعتداد بتجربته ، لذا كانت الذات مشحونة بقدرتها للتعبير عن الأنا ، وكلاهما يعبران عن الكائن الغريب ، والاستثنائي . فالجسد موجود ، ومثير لمن يراه ، ويستدعي هذا أنا فريدة ، تباهى بها . وليس غريباً أن اختارت شاندلر عنواناً مركزاً للغاية : أنا فيلليني .
ويفصح هذا العنوان عن معرفة دقيقة لشخصية فيلليني واختارت له ما يحلم به أو يطمح أن يكون دالاً عليه ، قالت هذا نيابة عنه ، والعنوان ممتلئ بتاريخه وتفاصيل انجازاته الكثيرة وكثيراً ما قال لها آراء مثيرة للتأمل لما تنطوي عليه من شذرات فلسفية "الإنسان لا يتذكر حياته حسب ترتيبها الزمني ، فالنحو الذي سارت عليه هو الأهم ، أو هو الأهم في الظاهر ، نحن لا نتحكم في ذكرياتنا . وواحدنا لا يملك ذكرياته ، بل هي التي تملكه" . ذاكرته مكتظة بالأحلام الذاتية ، وتصورات الآخرين التي يستمع لها ويختزنها بوصفها أحلاماً.
تميزت ش شاندلر في تجربتها الشخصية لإعداد سيرته الفنية ، ليست مكتملة ، بل اختارت منها ما توقعته مثيراً ، وكاشفاً عن الغموض الذي لف شخصية فيلليني .
في حوارها معه حول العناوين قال : " أن العنوان قيد . وعلى الإنسان أن لا يفكر في العنوان أولاً ، بل أخيراً ، وينبغي أن يكون شاملاً موضوعه قدر الإمكان .إذا تقيدت بالعنوان في البداية . ستجد ما تبحث عنه بدلاً من البحث عما هو مثير للاهتمام حقاً ، ومناقشته وأنت منفتح الذهن . أن العنوان لا يساعدك ، بل يرشدك ."
كان فيلليني فناناً لا يشبه أحدا . وقالت شاندلر بصراحة بأنه يوحدنا جميعاً برؤيا واحدة ، وفريدة . قال مرة : الأفلام صور متحركة . ولأفلامه صلة وثيقة بالإرث الفني وأقوى من صلتها بالإرث الأدبي . اختصر هذا المبدع الكبير حياته الفنية التي استثمرت التراث الفني الإنساني كله . وخلق لنفسه حياة واحدة . وظل هو الراوي لها عبر أفلامه التي اختزلت الكثير ، واختصرت أحلامه الإنسانية الغزيرة .
توزعت كثير من الشخصيات في أفلامه ، وأكثرها حضوراً غير مرئي في أفلامه ، على الرغم من حضورها الدائم كالروح ، وهذه هي شخصية فيلليني الذي ظل نجماً في أفلامه ، مثلما في الحياة اليومية وتفاصيلها الكثيرة الضاجة بما هو مثير للدهشة ، لقد كان فناناً قريباً من الجميع ، ينطوي على شيء من السحرية الجذابة والآسرة ، انه رجل صادق مع الآخرين ، لكنه دائماً ما يزاول الكذب مع نفسه .
كلامه مثير للدهشة ، وينفتح على التأويل ، وكان شاعراً ، يلتقط ما يدهش من مفردات ، تظل حاضرة ، محفزة للانشغال بإمكانات الكشوف فيها : ان الإنسان يواصل الحياة ما دام هناك أحياء ، يعرفونه ويهتمون به وأردفت شاندلر قائلة : " انه على حق . لقد كان فيلليني اكثر اهتماما بالأفلام الخالدة منه بالخلود الشخصي. "
المخفي اللاواعي ، غير المعروف بالتفاصيل ، كلها التقاطات فيلليني الشعرية الخاصة به ، والتي تعرف عليها هو ، أو توصل لها قبل الآخرين ، سجلها باسمه ، انها مكتشفاته الحلمية الكامنة في تخيلاته ووسط عالمه الفريد ، غيره لا يعرف وسيلته للوصول للأحلام التي لا تبعده عن الواقع ، بل تمركزه فيه . وتمنح تخيلاته طاقة المجال الفاعل في تجربته الفنية . وحده يعرف هذا الفضاء ، الغريب ، البعيد عن الآخرين ، والقريب إليه . " الفرق بين الآخرين وبيني ، هو أني اعرف أنني أعيش في عالم متخيّل ، واستاء من أي شيء يشوش رؤياي" . ولابد من التذكير بالعلاقة القائمة بين الحلم والرؤية ، التي اشار لهما فيلليني ، حيث المعنى الاستعاري والمحجوب المختفي فيهما . وهو فنان لا يعيش الا في فضاء التخيّلات . لان الذكريات مخزونة ولا يغادرها مثلما هي راضية بالسبات فيه "ولعل أهم ذكرياته ما كان لها تمظهر في عمله السينمائي ، واعني به الرسم . فقد كان في زمن بعيد جداً ، عندما كان طفلاً يرسم ، حتى تحول الرسم جزءاً منه ، والأم مزهوة به ، لأنه استجاب لنصائحها له عندما يرسم "هي مولعة بالرسم أيضا ، عندما كانت فتاة . الرسم مجال مجاور لعمله الفني ، وأحيانا يرسم شخصاً ممثلاً أو ممثلة وبعد ذلك يختار متماثلاً مع الذي رسمه."
وعرف هذا الفنان بأنه موهوب ، وما حاز عليه نعمة ثمينة جداً وعليه أن يقدرها ويستمتع بها . وأعظم موهبة امتلكها ـ كما قال ـ في الحياة هي مخيلته البصرية "أنها منبع أحلامي ، وهي التي مكنتني من الرسم ، وهي التي تصوغ أفلامي" ويذهب نحو تخيّل غريب ، انه حلمه الذي لن يتحقق "عند نهاية حياتي ، وفي فترة الغيبوبة القريبة من الموت ، أتمنى أن أرى رؤيا تكشف لي أسرار الكون ، وبعد ذلك استيقظ ، وأتمكن من صناعة فلم عن تلك الرؤيا ... الموت يكتنفه غموض رومانسي ... ويشير عن شعوره في سنواته الأخيرة " . " لو أصابني مرض واحتجزني عن العمل المختلف لكان ذلك موتاً في الحياة ، بالنسبة لي تقلقني فكرة العجز وعدم ممارسة الجنس ثماني مرات في الليلة الواحدة . حسناً ربما سبعة. "