TOP

جريدة المدى > عام > فـي صحبة الكتب..لم يحب في حياته سوى امرأة واحدة حتى الجنون اسمها: ديغول

فـي صحبة الكتب..لم يحب في حياته سوى امرأة واحدة حتى الجنون اسمها: ديغول

نشر في: 15 مايو, 2016: 12:01 ص

(13)
 
في الثالث والعشرين من شباط عام 1996 ، وفي باريس ، امتد بساط  من  مقبرة فيريير لوبويسون لينتهي أمام البانثيون "مقبرة العظماء" . وعلى أنغام النشيد القومي الفرنسي ، كان الحرس الرئاسي  يسير ببطء ، كانت الآلاف  التي وقفت

(13)

 

في الثالث والعشرين من شباط عام 1996 ، وفي باريس ، امتد بساط  من  مقبرة فيريير لوبويسون لينتهي أمام البانثيون "مقبرة العظماء" . وعلى أنغام النشيد القومي الفرنسي ، كان الحرس الرئاسي  يسير ببطء ، كانت الآلاف  التي وقفت تشارك في المشهد المثير تنثر الزهور عند مرور الموكب الذي يتكون من اعضاء الاكاديمية الفرنسية يتبعهم طلاب مدرسة الاداب  . وعند اقتراب الموكب من البانثيون انتشر الطلاب وتطلعوا الى المنصة المقامة تحت القبة الكبرى التي جلس عليها اعضاء الحكومة وعلى رأسهم الرئيس جاك شيراك ، الذي اصر ان يجلس الى جانبه الفيلسوف بول ريكور حيث طلب منه ان يلقي خطاب التأبين الخاص برمز ثقافة المقاومة الفرنسية اندريه مالرو ، حيث قررت الحكومة الفرنسية ان ينقل جثمان مالرو الى مقبرة العظماء ، ليدفن الى جوار فولتير وروسو وفكتور هيجو ، وكان ممكن قراءة ما مكتوب على واجهة البانثيون فوق رأس الرئيس الفرنسي شيراك أثناء إلقاء خطابه وكان كالآتي : "إلى الرجال العظماء من بلد ممتن" ، وعندما نهض شيراك ليلقي كلمته بعد ريكور قال : "ان نقل جثمان اندريه مالرو في ذلك الوقت الأماكن قدسية بالنسبة لنا  ليس مجرد عمل لذكرى بل هو تأكيد على إيمان فرنسا بالفكر والثقافة والادب وعلى احترامنا للكتّاب الذين نخلدهم هنا وعلى تقديرنا لعزيمتهم ولحياتهم . واحتفالنا اليوم هو عمل متعمد من جانبنا لرجل يمثل رمزا في تاريخ نضالنا المشرف ، وهو رمز يحوز انتباه أمتنا ومثال على نضال مثقف قرر ان  يضع قدراته في خدمة شعبه."
كانت وصية مالرو لعائلته ان تكون جنازته مقتصرة على أفراد عائلته وان يرقد في المنطقة التي أحبها : فير لوبوسون . لكن فرنسا بعد 20 عاما شاءت غير ذلك مع الأديب الذي كتب عنه ديغول في مذكراته : "إلى يميني كان وسيظل اندريه مالرو ، إن حضور هذا الصديق العبقري إلى جانبي ، يمنحني الشعور بأنني مغطى كلياً. إن الفكرة التي لهذا الشاهد الفريد تقويني في موقفي ، وإني على يقين ، في الأزمات الخطيرة بأن حكمه الساطع والصارم كان يساعدني دوما على تبديد الشكوك ."
************
 كان عمرة 19 عاماً عندما سافر الى جزيرة لاوس  حيث أسس هناك حركة "أنام الشابة" التي سيحولها هوشي منه بعد سنوات الى "فيات منه"  والتي ستقود النضال ضد الاستعمار الفرنسي ، وحين تُمنح  فيتنام الاستقلال عام 1945 كان مالرو البالغ من العمر أربعة وأربعين عاماً يقف الى جانب صديقه هوشي منه الذي سيلتفت الى الفرنسي الذي تبدو على ملامحه نشوة الانتصار ليقول للآلاف التي تهتف للنصر : "باسمكم سأقدم تحية للفرنسي الذي ساعدنا للتخلص من استعمار بلاده ." بعد سنوات نجده يقف الى جانب ماو ليسجل يوميات الثورة ومعانيها في روايته الشهيرة  "الوضع البشري" وفيها يخبرنا أن الصين القديمة تحتضر وان هناك بلاداً جديدة  تولد من رحم الفعل الثوري .  يذكر سارتر ان الوجودية  الفرنسية وجدت اساسياتها مع بطل مالرو في الوضع البشري  ، حين كان هذا البطل آنذاك تجسيداً للانسان الوجودي  المتمرد او الثوري ، يحمل غايته في نفسه ، فلا يهم ان انتصر او انهزم ، الأهم من ذلك هو فعله الانساني ، إن فعله هنا هو اكتشاف وجوده  الفردي الذي لايكتمل إلا في الإطار الانساني  ويضيف سارتر ان : "مالرو كان يدرك عبثية الحياة ، لكنه يحترم الشجاعة الفائقة عند الانسان ، الكائن الحي الوحيد الذي يعرف انه سيموت ، ثم يظل يضع مشاريع للحياة ."  كان الموت هاجساً رافقه منذ الصغر ، عندما وجد والده منتحراً ، ولهذا غالبا ما يموت أبطال مالرو . ويتذكر حين التقى بستالين في موسكو ان الزعيم السوفيتي قال له : "إن الذي سينتصر في النهاية هو الموت" ، وحين تنشب الحرب الاهلية الاسبانية عام 1936 يسارع الى الانضمام في صفوف الجمهوريين ، ويقود الطائرة في معركة مدريد ، لكن طائرته تسقط ويصاب بجروح بليغة ينتقل بعدها الى المعركة الإعلامية . في مطلع الحرب العالمية الثانية يقع في الأسر لكنه يهرب من السجن بمساعدة قدمها له ديغول ، يكتب روايته الشهيرة "الأمل" ، الأمل بانتصار الانسان على القوى الفاشية ، لكن التساؤل الأهم كان عن جدوى الحرب ولماذا يدفع الانسان ثمن تهور الطغاة  .
رواية الأمل وحدها ضربت الرقم القياسي في المبيعات ، وتناولت الحرب الأهلية في إسبانيا ، حيث الثورة على الوضع القائم هي بطلة الرواية ، وقد أثرت تلك الحرب على مالرو كثيرا : "إسبانيا ليلاً مليئة بالغناء، الصراخ والطلقات النارية وألالم" ، لا مكان في هذه الرواية لحكايات الفرد ، إنما هي نشيد للخلاص الجماعي : "أنتم تريدون أن تكونوا شيئاً ما ، إنها مأساة كل الحروب التي تتغذى على حياتنا" . يسأله أندريه جيد : لايوجد أغبياء في رواياتك فيجيبه : إنني لا أكتب لكي أثير الملل في النفوس ، أما عن الأغبياء فهناك الكثير منهم في حياتنا اليومية .
عاش مالرو اكثر من حياة ، فهو المراهق الذي قرر ان ينضم الى ثورة الفيتناميين على بلاده ، وهو الطيار الذي قام ببعثة استكشاف في الجزيرة العربية ، وهو الحائز على جائزة غونكور الادبية ، وهو الكولونيل بيرجيه في المقاومة الفرنسية ، وهو الطيار الذي قاتل الى جانب الجمهوريين في الحرب الاسبانية ، وهو الرفيق كيو في الثورة الصينية ، وهو صديق نهرو وجاكلين كنيدي ، وهو السينمائي الذي اخرج فيلما عن مآسي الحروب ، وهو المبعوث الدولي من اللجنة المناهضة الفاشية ، وهو وزير ثقافة ديغول ، وهو قاطع المسافات متنقلا من افغانستان الى الهند الى بلاد فارس الى اليابان الى مصر الى اميركا ليسجل اول كتاب رحلات بعنوان "الطريق الملكية" .
************
كان في الحادية والعشرين حين التقى لأول مرة أندرية جيد ، الذي قال له بعد سنوات : هل تتذكر حوارنا الاول ، لقد تعلمت منه الشيء الكثير.  
في شبابه حلم أن يكون طياراً ، لكنه وبعد ان أهداه أستاذه بول فاليري كتاب "المقامر" لدستويفسكي قرر ان يصبح كاتبا : "هذا الكتاب كشف لي كيف يمكن للانسان ان يقامر بكل شيء من اجل ان يمسك المستحيل" ، وكان المستحيل بالنسبة إليه ان يترك كل هواياته ومشاغله اليومية لينضمّ الى فيلق الثوار ، ولينحاز إلى مصائر البشر العاديين ، وفي رواياته "قدرالانسان" و"الوضع البشري" و"الأمل" يرصد التغيير الاجتماعي والسياسي في منتصف القرن الماضي ، وكيف تحولت الحياة الى رعب وموت ودمار ،ولهذا ينصح قرّاءه بأن يصروا على تحقيق الأمل ، قارئ صيني قصده يوم كان وزيرا للثقافة ، قال له إن ماكتبه عن الأمل لم يتحقق ، يمشي معه الى باب مكتبه ، وهو يقول له : لم يعد اليأس وارداً.
لقد هزّه إصرار نهرو وهدوؤه وموهبته في إسكات ما يسميه "قطيع البشر." يقول له نهرو وهما يتجولان في شوارع الهند :"قيل ان اللاعنف خرافة ، لكنه هنا هو الوسيلة الوحيدة للنضال" ثم يضيف اثناء الحديث "كنت اذكر دائما ما يقوله المهاتما غاندي : لايمكن ان يظهر الله حيث تكون الكراهية والخوف ".
قبل أشهر استرجعت ذكريات جميلة ، وأنا أعيد قراءة طبعة جديدة من كتاب "لا مذكرات" لأندريه مالرو، وهي ليست المرة الاولى التي اقتني فيها هذا السِّفر العجيب، ففي منتصف السبعينات كنت ما أزال في سنة اولى قراءة على حد تعبير شيخ صحفيي العرب مصطفى أمين حين قرأته ، وكان هو ومذكرات نيرودا "أشهد انني قد عشت" و"داغستان بلدي" لرسول حمزاتوف ابرز ثلاث سير حياتيه اثرت بجيل كامل من المثقفين العراقيين .
حين وقف مالرو أمام ديغول يؤدي اليمين باعتباره وزيراً للثقافة بادره الأخير بالقول : "المستقبل أولاً" وكان ذلك بالنسبة لمالرو مفاجأة. فهو كان يريد ان يقول للجنرال إنه خاض معارك من أجل العدالة الاجتماعية وذهب مع أندريه جيد الى برلين ليحتج في ساحاتها على إرهاب هتلر لأوروبا، وشكل مع رومان رولان اللجنة العالمية المعادية للفاشية، وقاد طائرة للدفاع عن إسبانيا الجمهورية، وشارك الصينيين ثورتهم، وانه منذ عامه العشرين انطلق خارج فرنسا باحثاً عن المغامرة الإنسانية.
يحيلنا مالرو، الذي دعاه البعض بملهم المقاومة الفرنسية إلى فكرة المثقف الملتزم، الذي ينقض المصلحة الأنانية بمثال أخلاقي مرغوب :"على المثقف، كي يكون كما يجب، أن يواجه المجتمع المسيطر ببديل اجتماعي متحرّر من السيطرة، يتيح للإنسان، مهما كان لونه ووضعه ومعتقده، حياة مبرّأة من القمع والحرمان.".
في باريس التي عاد إليها جريحا يسأله ألبير كامو : هل سنضطر يوما لأن نختار بين روسيا وأميركا ؟ فيجيب بحدة "الاختيار لن يكون إلا بين فرنسا قوية وفرنسا ضعيفة مستباحة مهانة تبحث عمن يحميها."
يقول الجنرال ديغول لصاحب الوضع البشري : بيني وبينك هل نستطيع ان نعيد الأمل الى نفوس الناس .
ويرد مالرو: أتذكر أنّ غاندي قال لي يوما : أفضل للإنسان ان يناضل من ان يخاف..المهم ان نربح الحياة.
أتصفح كتاب مالرو وتقع عيناي على جملته الشهيرة "ترى في اي عالم من الفوضى سنعيش لو لم يكتشف الإنسان الحرية" ، وتأخذني هذه الجملة إلى حيث يقول بطل رواية الأمل : "تسألينني عن الحرية .. انها موجودة في كل فعل نقوم به ، شريطة ان يكون فعلا من اجل الناس ".
أصبح كتاب "اللامذكرات" إنجيل الثوريين في القرن الماضي ، ونال الاحترام النقدي أيضاً بعد إقبال الأكاديميين على دراسته ومعرفة كيف كان يفكر أحد أبرز عقول فرنسا ، الطيار الشاب الذي مجّد النضال ، وأحب الحياة ثوريا وشطب المستحيل من حياته ، كما يشطب جملة غير ملائمة، ولم يُطِل التفكير حين قرر ان ينضم الى صناع المستقبل .
************
يظل كتاب "سقوط السنديان" الذي ترجمه الى العربية سامي الجندي هو الكتاب الذي يلقي الضوء على العلاقة  بين السياسي والمثقف ، وقد اراد فيه مالرو ان يسجل الكلمات الاخيرة  للجنرال الذي شاء ان يختار من بين ادباء فرنسا ومثقفيها من يكون، كما كان شاتوبريان لنابليون بونابرت ، ويذكر ديغول في مذكراته انه وسّط بعض الأصدقاء للتعرف على مالرو ، ويتندر مالرو وهو يجيب على سؤال لصحفي حول اللقاء الاول مع ديغول فيقول : انه حب من اول نظرة ، وجدت بطلي ووجد هو كاتبه المفضل ، وفي السيرة التي اصدرها "غايتان بيكون" وترجمتها الى العربية اميرة الزين نقرأ كلاما على لسان ابنة مالرو تقول فيه ان والدها لم يحب في حياته سوى أمراة واحدة حتى الجنون : ديغول .
************
كانون الثاني  1969 كان ديغول قد رضخ لتظاهرات الشباب ، وقرر ان يقدم  استقالته وينفي نفسه الى قرية في الجنوب كي يكون بعيدا عن مجرى الاحداث . هناك يكتب في مقدمة مذكراته :"لاشيء اهم من فرنسا مستقرة"   ، كان لا يملك اكثر من ان  يمازح الفلاحين حول محاصيلهم، ويجلس ليسطر اهم ما خطّه سياسي في التاريخ، مذكراته التي اسماها "مذكرات الامل" ، يدخل عليه اندريه مالرو ليجده جالسا الى طاولة عليها اوراق متناثرة ، يكتشف وهو يصافحه كم هما صغيرتان يداه وناعمتان ، تذكرانه بيدي ماوتسي تونغ ،  يقول له ان الجميع يتساءلون ماذا سيفعل بعد الرحيل ، يخبره الجنرال ان الامر انتهى ، يتذكر لقاءه الاول معه في احد الخنادق آنذاك سأله : ماذا يريد الفرنسيون هل يريدون ان يبعثوا الحياة في فرنسا ام يناموا ، فأنا لن أبنيها من دونهم . يتذكر انه ذهب ذات يوم ليعرف ماذا يريد تروتسكي ، فوجد البيت صامتاً إلا من الجرائد التي تزدحم بها المنضدة والكتب التي تناثرت على الارض ، وحين سأله ماذا يريد أجاب تروتسكي: "هذا السؤال تطرحه على الشخص الآخر"، ويقصد ستالين .لايزال يتذكر تلك الجملة الرائعة التي قالها له الجنرال قبل ربع قرن : "انني اضع خططي من أحلام جنودي النائمين" ، وحين يعيد عليه السؤال : ماذا تريد؟  يجيب الجنرال العجوز : اريد ان اكتب تاريخ الأوهام ..ان السياسة هي فن وضع الأوهام، في مكانها ، إنك إذا خضعت للأوهام لم تستطع فعل اي شيء جديد .
************
بعد عشر دقائق من إعلان خبر وفاة الجنرال ديغول كان مالرو يحث الخطى باتجاه القرية التي قرر ان يقضي فيها آخر سنيّ حياته ، يرى النسوة دامعات العيون أمام البيت ، وفي بكين يعلن ماوتسي تونغ تنكيس الأعلام ، وفي قصر بكنغهام تقرر الملكة اليزابيت إلغاء جميع مواعيدها والسفر الى باريس لإلقاء النظرة الأخيرة على صديق عزيز. راديو فرنسا يعلن ان هناك حشوداً صامته تقطع الطريق بين الشانزليزيه  والقصر الحكومي ، قوس النصر يغص بالنسوة اللواتي يحملن الزهور ، امرأة تقول لأحد الجنود :"خسارة انه لن يرانا بعد اليوم ."
كثيرون من الذين يتقدمون الجنازة في بطء كانوا من الذين خرجوا في تظاهرات 1968 التي طالبت باستقالته ..الجميع يرمون زهورهم باتجاه الرجل الذي قال ذات يوم : "عندما تبحث عن قرارك انظر في عيون الاطفال."

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram